إننى أؤمن بروح المكان التى تتشكل من أنفاس وأحلام وآلام سكانه وقاطنيه، ومن الأشياء التى تحدث بين جدرانه وطرقاته يوم الثامن من أكتوبرأقامت دار الأوبرا المصرية احتفالا راقيا بمناسبة عيد ميلادها السادس والثلاثين. حضر الاحتفال نخبة من الفنانين والمثقفين المصريين، استقبلهم الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة، والدكتورة آمال زايد مديرة الأوبرا. تنظيم الاحتفالية تميز بالأفكار المضيئة، مثل تلك المقتنيات النادرة التى احتفظ بها أرشيف الأوبرا من أعداد لمجلات وجرائد قديمة، العدد الأول من جريدة الأهرام الصادر يوم 5 أغسطس 1876. وعنوانه الرئيسى أو «المانشيت» بلغة الصحافة: كيف تم عقد القران الملكى السعيد أمس؟ كذلك العدد الأول من مجلسة الموسيقى الصادر فى 16 مايو 1935 وعلى غلافه صورة الموسيقار الشاب محمد عبد الوهاب -اندهشت عندما عرفت أنه كانت لدينا مجلة نصف شهرية متخصصة فى الموسيقى- وغلاف العدد التذكارى لمجلة المصور بمناسبة مرور 100 سنة على افتتاح قناة السويس. وصور لوزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة بصحبة كبار كتاب العالم فى عرض من عروض الأوبرا. بالإضافة إلى مجموعات من الصور النادرة لأوبريتات مصرية وعالمية قدمت على مسارح الأوبرا المختلفة على مدى تاريخها. رأيت فى تجوالى عبرالزمن فى الساحة الكبيرة المواجهة للمسرح صورة لجورج زامفير يعزف فى القاهرة، وصورة من مشهد الحانة فى باليه دون كيشوت، وعشرات الحفلات والمطربين والعازفين والراقصين من أنحاء العالم. أما الحفل الأنيق، رفيع المستوى الذى أعدته الأوبرا للاحتفال بعيد ميلادها فكان عرضا راقيًا، مركزًا، شارك فيه 500 فنان وفنانة من فرق الأوبرا المختلفة وعددها 16 فرقة. نماذج منتقاة من عروض الأوبرا التى أحبها جمهورها، من موسيقى عربية، وإنشاد دينى، إلى أوبريتات، باليه، أوركسترا القاهرة السيمفونى، فريق من عازفات الهارب، أما مفاجأة الحفل فكان تقديم جزء من باليه الجمال النائم، وعرض شهر زاد، مشهد النصر من أوبرا عايدة الشهيرة. كان الانتقال من فقرة لأخرى يمر بفاصل قصير يعرض خلاله فيلم تسجيلى عن مرحلة من مراحل الأوبرا المختلفة، لا تشعر بأن آلات ومجموعات تخرج من خشبة المسرح، وأخرى تدخل. يتم كل شىء بتنسيق فائق الروعة والإتقان، فعلا شعرت أنى أشاهد عرضا عالميا رائعا. أخرج الحفل الفنان وليد عونى، وقاد الأوركسترا عدد من الموسيقيين الكبار، وقاد الأوركسترا فى مشهد النصر الفنان العالمى نادر عباسى، القائد الرئيسى لدار الأوبرا المصرية والمشرف على الفرق الفنية التابعة للبيت الفنى. أما الإشراف العام والإخراج فكان للدكتورة لمياء زايد رئيسة دار الأوبرا المصرية. للأماكن أرواحها، ونبضها مثل الكائنات الحية جميعا، البعض يظن أنها جماد، لا روح لها ولا مشاعر، لكنى أؤمن بروح المكان التى تتشكل من أنفاس وأحلام وآلام سكانه وقاطنيه، ومن الأشياء التى تحدث بين جدرانه وطرقاته. ودار الأوبرا من الأماكن التى أبتهج بمجرد أن أدلف من بوابتها الخارجية وأصبح داخل فضائها وحدائقها. ففى هذا المكان عاش الفن بمختلف ألوانه وأنواعه وتنفس، أخرج كل فنان ما فى جعبته من إبداع. إنه مكان معجون بالمشاعر، نابض بالحنين والشجن، صادح بالنغمة القادمة من أوتار العود والكمان، مكان تشعر فيه إنك فعلا إنسان لا تزال، ولم تتحول إلى جزء فى آلة صماء. كل سنة و دار الأوبرا المصرية طيبة، متألقة، كل سنة وهى شعاع يضىء حياتنا بالفن والجمال. ورمز للرقى والحضارة المصرية العظيمة التى استوعبت على مدى تاريخها كل الثقافات والحضارات الأخرى، لكنها بقيت فريدة، تتأثر وتتفاعل دون أن تذوب أو تنصهر.