التخطيط الشامل لمدينة الإسكندرية الذي قامت به جامعتها عامي 1982و1983،أفرد باباً للتلوث البيئي، ليس فقط لما له من أهمية خاصة نشعر بها اليوم أكثر مما كان يشعر بها سكان الإسكندرية منذ 30 سنة، ولكن أيضا لما وصفه التخطيط بتأثير هذا التلوث "الخطير علي وجود المدينة وتطورها وسمعتها كمدينة سياحية من الطراز الأول". يستعرض الباب مصادر التلوث الصناعي، و"تأثير المصانع علي نوعية المخلفات السائلة الملوثة لشواطئ الإسكندرية وخلجانها مما انعكس سلبا علي قيمة الثروة السمكية في البحر وبحيرة مريوط التي تعتبر وعاء يتم التخلص فيه من حوالي 70٪ من المخلفات الصناعية".. هكذا كان الوضع في الإسكندرية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. فماذا هو الوضع اليوم؟ نلاحظ أولا أن التخطيط وصف المدينة بالسياحية في المقام الأول. وطالب ب "الإبقاء علي الطابع السياحي والاصطيافي للمدينة بواجهتها البحرية الشهيرة". فهل ينسجم ذلك مثلا مع تحويل طريق الكورنيش إلي طريق سريع كالطرق الصحراوية؟ هل يمكن الاستمتاع بالسياحة علي كورنيش الإسكندرية الآن مقارنة بما كان وقت التخطيط؟؟ اسأل أي شخص في الإسكندرية لتعرف الإجابة. وذلك رغم الجهود الكبيرة التي يقوم بها الصديق العزيز الناجح دائما اللواء عادل لبيب محافظ الإسكندرية. وأرجوه أن يعيد إشارات المرور والمطبات الاصطناعية علي طريق الكورنيش مرة أخري، وينسي حكاية الأنفاق وإنفاق الأموال عليها بلا جدوي، لتعود السياحة إلي كورنيش الإسكندرية كما كانت. أما عن تلوث بحيرة مريوط فحدث ولا حرج. يكفي أن تراجع ما تنشره الصحف القومية فقط. أو ترجع إلي الموقع الرسمي للهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية علي الإنترنت، وهي هيئة قومية أيضا. أعاد هذا الموقع نشر تقرير كانت قد نشرته مجلة الأهرام الاقتصادي في يونيو الماضي عن تلوث البحيرة، مما يعني مصادقة الهيئة علي ما ورد في المجلة. وأنا لا أعرف كيف تنشر الهيئة هذا التقرير ولا تقلب الدنيا إنقاذا للثروة السمكية في مريوط والتي هي مسئولة عنها؟ لقد أوصي التخطيط الشامل بعمل شاطئين للبحيرة، يمتدان طوليا ويتيحان فرصا فريدة للتعمير، وذلك بالتخطيط السليم. لكن، وبدون تخطيط سليم، انتشر العمران عشوائيا حول البحيرة، بل وأكل 80٪ من مساحتها الأصلية كما جاء بموقع هيئة الثروة السمكية. علي كل حال تكرر ذلك بنسب متفاوتة في كل بحيرات مصر تقريبا. ذكر التقرير المنشور أن 42 مصنعا تلقي بمخلفاتها في البحيرة. وأعتقد أن هذا العدد كفيل بتلويث كل بحيرات مصر وليس فقط مريوط. الخلاصة أن تلوث مريوط الذي حذر منه التخطيط الشامل من 30 سنة ازداد . ولم ينفذ شيء من التوصيات التي وردت في التخطيط لحماية البيئة في الإسكندرية بشكل عام ومريوط بشكل خاص. كنت قد أشرت في الأسبوع الماضي إلي بعض التوصيات التي لم تنفذ حتي الآن، وأضيف اليوم بعضا آخر غير بحيرة مريوط: لم تنفذ توصية التخطيط الشامل ب "تحديد النمو العمراني للمدينة من ناحية الجنوب (الحزام الأخضر ). والغرض منه حماية الأراضي الزراعية والتحكم في امتداد العمران والصناعة دونما ضابط". . لم ينفذ الطريق السريع المعلق فوق خط سكة حديد أبو قير. لم تنفذ التوصية بردم ترعة المحمودية وخلق طريق رئيسي عليها. وذلك أيضا بسبب عدم محافظتنا عليها واستعمالها في صرف مخلفات المصانع، وصرف المساكن أيضا وكثرة التعديات عليها، فضلا عن انخفاض مستوي مياهها كثيرا. بل تراوح الجدل في الواقع بين ردم الترعة وبين تطهيرها. وهذه سمة أخري تظهر كثيرا لدينا وهي التردد في اتخاذ القرار الصحيح والتردد في تنفيذه.. لم تنفذ التوصية بكهربة خط سكة حديد أبو قير. . لم يتم إخراج الاستعمالات غير المرغوب فيها الموجودة داخل المدينة، وهي المصانع والورش، والمخازن المتداخلة في الكتلة السكانية. تكرار عدم الأخذ بالأبحاث العلمية وتوصياتها في مصر يجعلني أظن أن العلماء يضيعون أوقاتهم فيها، وأنهم يكتبونها ل "الذكري غير الخالدة". تقضي الموضوعية تسجيل أن هناك توصيات في التخطيط الشامل تم الأخذ بها منها: "زيادة المناطق المفتوحة والخضراء والملاعب في كافة أنحاء المدينة". ومن المعروف أن الإسكندرية تشتهر ببعض الحدائق العامة الجميلة والقديمة مثل حديقة الشلالات التي تصل مساحتها إلي 36 فدانا، وحدائق المنتزه وانطونيادس والنزهة والحيوان. "تنفيذ شبكة من الطرق لربط شرق المدينة بغربها مما ساعد علي حل الاختناقات المرورية، وساعد مشروعات التنمية التي أضيفت في المحافظة بشكل عام. "إحياء منطقة وسط المدينة وإنشاء أماكن انتظار للسيارات". إلا أنه لم يتحقق ما ورد في التوصية ذاتها من "إعادة تخطيط الأحياء القديمة وتحويل بعض الشوارع لمناطق مشاة وإنشاء شبكة قوية للنقل العام فوق وتحت الأرض". بالنسبة لتقوية النقل العام فوق الأرض فالملاحظ أن الدولة اتجهت إلي ترك هذا المجال، في مصر كلها، للقطاع الخاص من ملاك الميكروباصات، ثم ما يسمي ب "التوك توك" الذي يثير الخزي. ولم ينفذ أي مشروع لمترو الأنفاق في الإسكندرية رغم حاجتها إليه. تمت الاستجابة للتوصية الخاصة بالحفاظ علي شواطئ الإسكندرية لمنع النحر، وتم تنفيذ مشروع كبير لهذا الغرض. وإن كان هناك جدل كبير صاحب تنفيذ هذا المشروع وبخاصة في منطقة الميناء الشرقي.. كما تمت الاستجابة للتوصية بنشر الخدمات والمشروعات خارج المدينة، وتم التوسع في مدينتي العامرية وبرج العرب الجديدتين.. لقد تابعت اهتمام المحافظين الأخيرين للإسكندرية بتنفيذ هذه التوصيات، وهما اللواءان عبد السلام المحجوب وعادل لبيب، والمجهودات الكبيرة التي بذلاها. دون أن يعني ذلك إغماط حق المحافظين السابقين عليهما، كما لا يعني أيضا الربط بين جهود المحافظين والتخطيط الشامل الذي أتحدث عنه. من الأبواب الفريدة في التقرير باب الشئون المالية والاقتصادية. تضمن دراسة تحليلية للنفقات المحلية العامة بمحافظة الإسكندرية، ودراسة تحليلية أخري للإيرادات العامة، وفيها متوسط نصيب الفرد في المشاركة في التمويل المحلي. كل ذلك للتنبؤ بالاحتياجات التمويلية للمحافظة. وأنا، مرة أخري، لم أر مثل هذا في أي مخطط عمراني آخر.. من بين ما لفت نظري في التخطيط الشامل عبارة مهمة:" إن النمو العمراني المطرد وغير المتوقع يهدد طابع المدينة الفريد وشخصيتها التاريخية المميزة". وهي عبارة لا نقرؤها عادة عند الحديث عن تزايد عدد السكان في مدينة ما عندنا. فهي عبارة تدل علي بعد نظر علمي، في العلاقة بين النمو العمراني وبين طابع المدينة بشكل عام وليس في الإسكندرية فقط. ويمكن أن يسأل أي منا نفسه عندما يعود إلي مسقط رأسه بعد سنوات طويلة: هل وجد طابعه كما كان قبل أن يتركه شخصيا، وبصراحة، لم أعد متحمسا لزيارة مسقط رأسي "منفلوط". فلم أعد أعرفها من كثرة ما طرأ علي طابعها من تغيرات بسبب الزيادة السكانية الفظيعة والنمو العمراني العشوائي فيها! قدر التخطيط الشامل الزيادة السكانية في الإسكندرية عام 2005 وهي السنة المستهدفة من التخطيط. ومع تحذير التخطيط من تأثير الزيادة سلبا علي طابع المدينة، إلا أن الواقع فاق حتي ما قدره التخطيط. وهذا سنقرؤه الأسبوع القادم إن شاء الله.