وهذه دراسة أخري مهمة من الدراسات المعروضة علي مجلس علوم البيئة بأكاديمية البحث العلمي، والمتعلقة بالمتغيرات التي تحدث في مناخ مصر بشكل خاص. وهي جزء من التغيرات المناخية التي تجري علي العالم كله. كما أن هذه الدراسة مهمة لسبب إضافي، أنها أول دراسة تهدف الي رصد تأثير التغيرات المناخية علي التراث المعماري في مصر، معتمدة علي دراسة حالة لمدينة القاهرة. هو موضوع وثيق الصلة بكل الأفراد والمؤسسات التي تعمل من أجل الحفاظ علي الثروة العقارية المصرية وبخاصة الأثرية والمتميزة والتراثية منها، ومن هذه المؤسسات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الذي أتشرف برئاسته. أعتقد أن هناك كثيرا جدا من الناس لم يربطوا من قبل بين التغيرات المناخية والمباني. فكل التفكير منصب علي تأثير هذه التغيرات علي البشر، وكأن الحجر لا يتأثر بشيء. لكن هذه الدراسة تتحدث عن تأثر، حتي الحجر، بتغيرات المناخ. تقود هذه الدراسة الأستاذة الدكتورة علية عبد الشكور علي الأستاذ المتفرغ في قسم تلوث الهواء بالمركز القومي للبحوث بالجيزة. وسوف نلاحظ علي الدراسات المقدمة لمجلس علوم البيئة تكرار اسم المركز القومي للبحوث بما يعني الصلة الوثيقة بين أكاديمية البحث العلمي وبين هذا المركز، وهما يعانيان من المشاكل ذاتها. بما يعني ضرورة بحث هذه المشاكل ومناقشتها علي ارفع المستويات ووضع حلول لها وتنفيذها وليس الاكتفاء بالكلام والكتابة عنها كما نفعل دائما يرحمكم الله. جاء في مشروع دراسة »تأثير ملوثات الهواء علي التراث المعماري« تأكيد آخر علي ضرورة الحفاظ علي التراث المعماري للإبقاء علي معالم الماضي لكي يراها أبناء المستقبل. فمنذ أن وعي الإنسان الحتمية التاريخية للماضي والحاضر والمستقبل حاول تسجيل حاضره و الحفاظ علي ماضيه ليراه المستقبل. وأصبح التراث يعكس الهوية الحضارية. بالرغم من تأثير الزمن والتآكل الطبيعي وتأثير الكوارث الطبيعية من زلازل و فيضانات و خلافه علي التراث معماري، فإن تأثير الإنسان علي هذا التراث كان أفدح وأكبر. حيث أثرت التكنولوجيا في تسهيل التطور العمراني السريع واختفاء العديد من المباني والمناطق الأثرية لإفساح المجال للطرق والمشروعات العامة والصناعية الكبيرة. كما ساهمت الصناعة والتلوث الناتج من عادم السيارات في زيادة التلوث البيئي للهواء والمياه مما اثر تأثيرا مباشرا علي التراث المعماري. والقاهرة - كمدينة سياحية - تتعدد بها جميع المظاهر السياحية من كل العصور التي يحتاجها الزائر. وتتباين طرز المباني التراثية المشيدة في مدينة القاهرة بشكل كبير وبصورة تعكس الفترات التاريخية التي شيِّدَت فيها. وتعاني مدينة القاهرة من مشاكل بيئية عدة ناجمة عن تلوث الهواء والتربة والماء بسبب أنشطة الإنسان، فضلاً عن عناصر أخري مثل الإشعاعات والضوضاء وغيرها التي تؤثر علي نحو مباشر أو غير مباشر في صحة الإنسان وعلي ممتلكاته خاصة التراث المعماري. تتراوح خطورة هذه المشاكل بحسب الملوثات الناتجة من النشاطات المختلفة ودرجة تركيزها ومناطق وجودها. يعد تلوث الهواء من أخطر المشاكل التي تواجهها مدينة القاهرة وبخاصة في المناطق الصناعية والتي تؤثر علي المناطق الأخري المحتوية علي كنوز من التراث. ينبه مشروع الدراسة إلي أن تلوث الهواء بالقاهرة الآن أصبح من المشاكل الخطيرة. حيث يتركز معظم النشاط الصناعي والتجاري في القاهرة دون تخطيط مناسب أو سياسة تنظيمية لنوعية الهواء مما يؤدي إلي أنواع كثيرة من مصادر التلوث. كما أن الانبعاثات الناتجة من هذه المصادر المختلفة يقابلها من ناحية أخري ارتفاع درجة الحرارة ونقص الأمطار بصفة عامة مما يؤدي إلي تكثيف هذه الملوثات بهواء القاهرة، كما يؤدي إلي زيادة تأثيرها السلبي. ويعد تدهور المباني وخاصة المباني التاريخية والأثرية والمتاحف من أهم دلائل التأثيرات السلبية لتلوث الهواء. ويعد تدهورها - نظرا لقيمتها التاريخية التي لا تقدر - لا يقل عن كونه كارثة قومية. يعدد مشروع الدراسة أنواع الخسائر الناجمة عن تلوث الجو. مثل التلف الناتج عن الغازات. يعتبر غازا ثاني أكسيد الكربون وثالث أكسيد الكبريت من الغازات التي يتسبب عنها تلف الصور الجدارية خاصة الصور المنفذة علي أرضيات جيرية أو حوامل من الأحجار الجيرية. ويزداد غاز ثاني أكسيد الكربون في المدن الصناعية نتيجة عمليات الاحتراق ونفايات وغازات المصانع. قد تغسل مياه الأمطار غاز ثاني أكسيد الكربون فتكون حمض الكربونيك المخفف، وهو يسبب تلفا كبيرا لمواد البناء الداخلي في النسيج البنائي للصور والنقوش الجدارية، خاصة حوامل التصوير كالأحجار الجيرية أو أرضيات التصوير الجيرية. إذ يتفاعل الحمض مع مادة الأثر مكونا بيكربونات الكالسيوم القابلة للذوبان في الماء والتي يعاد ترسيبها علي هيئة كربونات الكالسيوم بعد الجفاف. أما في حالة ثالث أكسيد الكبريت يتحول الغاز مع وجود الرطوبة إلي حمض الكبريتيك المخفف، ويؤثر علي النقوش وخاصة الأرضيات الجيرية، حيث تتحول كربونات الكالسيوم الموجودة إلي كبريتات الكالسيوم فنجد أن كبريتات الكالسيوم تزيد في الحجم عن كربونات الكالسيوم مرتين تقريبا، وهذا يسبب عدم التماسك لطبقة اللون وتكون قشرة سطحية غير مستحبة علي سطح الطبقة الملونة. هناك تلف آخر ناتج عن الضوء والتغير في درجات الحرارة. فالضوء العادي يحتوي علي نسبة عالية من الأشعة فوق البنفسجية التي يتسبب عنها بهتان وضعف لبعض الألوان (خاصة الألوان العضوية) أو الألوان المنفذة علي أسطح المباني والصور الجدارية. كما يؤثر علي الوسيط العضوي للتصوير ليصبح مادة هشة تتكسر وتفقد قوتها الرابطة اللاصقة. بدورها فإن الصور الجدارية تخضع للتغير اليومي والموسمي لدرجات الحرارة. بذلك تخضع إلي معدلات من التمدد والانكماش النسبي. تلف ثالث يرصده مشروع الدراسة هو الناتج عن النشاط البيولوجي. يظهر تأثير نمو الكائنات الحية الدقيقة بصورة كبيرة حيث تشوه وتتلف جدار المباني والصور والنقوش الجدارية. فارتفاع الرطوبة مع وجود المركبات العضوية المختلفة تخلق بيئة مناسبة لنمو الكائنات الحية. أهم الكائنات الحية الدقيقة التي تصيب الأسطح الجدارية الكائنات ذاتية التغذية وغير ذاتية التغذية مثل البكتيريا الكبريتية والنتروجينية والطحالب. الخلاصة أن تلوث الهواء الذي يزداد بمعدلات مريعة في مصر وبخاصة في القاهرة لا يقضي فقط علي البشر الذين ظلمهم حظهم العاثر بالعيش فيها، ولكنه يقضي حتي علي الحجر الذي لا ذنب له. فتبقي القاهرة بلا بشر ولا حجر في المستقبل. وسوف يصيب هذا الهول الجميع، ليس فقط في المنتجعات الفاخرة حول القاهرة، ولكن حتي لو كنتم في بروج مشيدة. أفيقوا يرحمكم الله.