بقلم : سمير غريب [email protected] نعم حدث هذا منذ بضعة أيام. وجدت مع بائع روبابكيا في القاهرة " التخطيط الشامل للإسكندرية 2005 " ! خمسة مجلدات ضخمة يبلغ عدد صفحاتها 2240 صفحة من الحجم الكبير. مطبوعة في نوفمبر 3198 وعلي الغلاف اسما محافظة الإسكندرية وجامعتها. ذهلت. طلب البائع 150 جنيها ثمنا لهذه الثروة. لم أفاصله. دفعت فورا وحملت المجلدات الثقيلة ممتنا. لا أعرف كم أنفقوا عليها لإعدادها. كل هذا ب 150 جنيها فقط .. يابلاش ! الأهم من المال هو الجهد المبذول بتفكير وتخطيط علميين لم أر مثيلا لهما في تخطيط المدن أو المحافظات في مصر حتي الآن . لذا يسعدني هنا أن أتحدث عن هذا الجهد لعدة أسباب منها: تحية العلماء والمهندسين والمسئولين الذين قاموا به ولم يعد يذكرهم أحد اليوم. إعطاء النموذج والقدوة في الدراسات المشابهة ، ليس فقط في مجالات التخطيط العمراني، ولكن في البحث العلمي الجماعي بشكل عام. فقد تجاوز " التخطيط الشامل " الحدود المعهودة عندنا في عمل المخططات العامة أو الاستراتيجية ، إلي التفكير المتكامل نحو مستقبل أفضل لمنطقة ما. الاستفادة من هذا الجهد العلمي الضخم والمتعدد المستويات والمجالات. وتبدأ الاستفادة بالطلب من محافظة الإسكندرية وجامعتها بطبع نسخة إلكترونية من التقرير النهائي علي الأقل وتوفيرها علي شبكة الإنترنت مجانا . المهم أن يكون لديهما نسخة. وإن لم يكن فأنا علي استعداد لإعارتهما نسختي التي حصلت عليها من بائع الروبابكيا! الأمل في بدء نقاش حول ملاحظات وتساؤلات عديدة مهمة يثيرها هذا العمل الجليل، اليوم، وبعد ما يقرب من ثلاثين عاما من القيام به. سواء فيما يتعلق بمنهج الدراسة أو نتائجها، مرورا بالمعلومات الغزيرة جدا التي تضمنتها، وانتهاء بمقارنة كل ذلك بما تلاها من دراسات، وبالواقع الحالي للمحافظة، ومعرفة مدي الاستفادة من هذه الدراسة الضخمة وتنفيذ أي من توصياتها .. أم أن كل هذه الأوراق التي زادت علي ألفين استفاد منها بائع الروبابكيا وحده ؟ رحل كثير من العلماء والمهندسين الذين شاركوا في هذه الدراسة. لكن هناك عددا منهم ما زالوا أحياء أمد الله في أعمارهم وشفا المرضي منهم، أمثال الأستاذين الدكتورين محسن زهران ومحسن أبو بكر بياض. وأرجو أن يبدأ هؤلاء الأحياء ما نرجوه من نقاش مفيد. لكي ندرك الحجم الضخم لهذا السفر العظيم وأهميته الكبري، أذكر هنا بعض المعلومات الأساسية والعلامات البارزة فيه. للأسف لن أتمكن من تقديم عرض واجب ، فمن الصعب تلخيصه في مقالة أو مقالتين. الذي حدث أن محافظة الإسكندرية تعاقدت مع جامعتها في 5 أكتوبر 1981 علي مشروع التخطيط الشامل للمحافظة حتي عام 2005. كان الفريق محمد سعيد الماحي محافظا للإسكندرية وقت توقيع التعاقد، بينما كان اللواء محمد فوزي معاذ هو محافظها عند طباعة التقرير النهائي، مثلما كان الأستاذ الدكتور محمود السيد الحضري رئيسا للجامعة. توزعت الدراسة علي أربع مراحل، شملت كما ينبغي أن تكون عليه مثل هذه الدراسات: المسح الشامل وجمع المعلومات والبيانات وتحليلها وتحديد المشاكل واستخلاص النتائج والاقتراحات والبدائل وإعداد تقرير ابتدائي وخرائط للتخطيط الشامل. أخيرا التقرير النهائي الذي يعتبر حجة في حد ذاته . احتوي علي 20 بابا مدعما بمئات من الجداول الإحصائية والرسومات والخرائط . فضلا عن ملخص مطبوع بالألوان في 200 صفحة. لم يكتف فريق العمل بكل ذلك ، بل أعدوا معرضا وصمموا نموذجا مجسدا لمنطقة وسط المدينة بمقياس رسم 005:1 أشك أن يكون هذا المجسم موجودا حتي الآن، كما أشك في الاحتفاظ بمادة المعرض. ربما لأن بائع الروبابكيا لم يحصل عليهما ! أهدت أسرة المشروع التقرير النهائي إلي روح أول مدير له هو المرحوم الأستاذ الدكتور محمد فؤاد حلمي. من بين ما لفت نظري مشاركة خمسة أساتذة من جامعة ليفربول الإنجليزية. اعترف التقرير بالفائدة والأثر الكبيرين لهذه المشاركة التي جاءت بمعونة من وزارة التنمية لما وراء البحار البريطانية. ربما كانت هذه هي المرة الأولي التي يشارك فيها أساتذة أجانب في مخطط عمراني مصري بعد ثورة يوليو 1952 وأورد التقرير أسماء الأساتذة الإنجليز شاكرا لهم. تم تقسيم المشروع علي 18 فريق عمل في مختلف مجالات العمران، بالإضافة إلي مجالات التعليم والثقافة والصحة والصناعة والمناطق الحرة والزراعة والسياحة والحفاظ علي الشواطئ والاقتصاد والقانون. شارك فيها عشرات من الأساتذة والمهندسين فضلا عن فريق إداري ومالي. رأس كل فريق واحد من كبار أساتذة جامعة الإسكندرية. يبدأ " التخطيط الشامل " بتاريخ مدينة الإسكندرية ، منذ أنشأها الاسكندر الأكبر عام 333 ق. م وحتي وقت " التخطيط " كما استعرض تطورها العمراني عبر التاريخ . وصف مكونات المدينة وتقسيمها الإداري في عامي 1962 و 1982 حلل البيانات السكانية للمدينة وعلاقتها بالجمهورية . كما حلل المناخ وخصائصه . وناقش استعمالات الأراضي وتخطيط الطرق. وانتهي إلي وضع مخطط شامل لشبكة الطرق ومداخل المدينة مترابطة مع مناطق الموانئ والمناطق الصناعية والامتداد العمراني المقترح. وكذلك فعل في كل المجالات التي تعرض لها. بالإضافة إلي موضوعات لا يتم تناولها عادة في مثل هذه المشروعات، مثل تناول الهجرة الداخلية من وإلي الإسكندرية ، ودراسة أنماط الزواج من حيث تكراره للشخص الواحد أو تعدد الزوجات. بل درس " إمكانية توفير احتياجات سكان المحافظة من البروتين الحيواني حاليا ومستقبلا " ، ودرس معها الاحتياجات ذاتها لمحافظتي البحيرة ومطروح لكونهما تشكلان إقليما جغرافيا واحدا مع الإسكندرية . وهي المشكلة التي يعاني منها سكان مصر كلها هذه الأيام ، وليست الإسكندرية فقط .. أوصي التقرير بالبدء جديا في إنشاء مطار العامرية الجديد ، ولم أكن اعرف أنه تم تخصيص موقع له بالفعل وقدرت تكاليفه بحوالي 60 مليون جنيه.. لكن شيئا من هذا لم يحدث . وأنشئ مطار "برج العرب " بدلا من مطار العامرية. من الأبواب التي تهمني بشكل خاص في التخطيط الشامل باب " الحفاظ علي التراث الحضاري والمعماري ". تناوله التخطيط قبل سنوات عديدة من صدور أول قانون معني بهذا الغرض عام 2006 وقبل إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. ومما ذكر في هذا الباب وصف الإسكندرية ب " كتاب مفتوح من مفردات ومعان فراغية وتشكيلية وجمالية تترجم قيم الحضارة ومستويات التقدم الثقافي والعمراني علي مدي السنين والحقب المتلاحقة ". هذا يدل علي وعي متقدم بالعلاقة بين الحفاظ علي التراث وتحضر وتقدم أي مجتمع .. إذا طبقنا تلك القاعدة الصحيحة علي علاقة المصريين الحاليين بتراثهم المعماري يتضح بعدهم عن القيمتين: التحضر والتقدم. يوضح التقرير ماهية التراث الحضاري ودلالاته وتحليلا للقيم والعناصر المعمارية الواجب الحفاظ عليها مع عدم الإخلال بمتطلبات التطوير. موضحا أن استراتيجية الحفاظ علي التراث ترتكز علي تطويره وليس فقط العناية بما هو قائم والحفاظ عليه. احتوي الباب علي وسائل تحقيق عمليتي التطوير والحفاظ الواجبتين . واقترح أن يعيد الجهاز القومي للتنسيق الحضاري نشر هذا الباب بشكل مستقل وتوزيعه علي نطاق واسع نظرا لصلته الوثيقة به. اقترح الباب أطرا لتصنيف نماذج البناء في المدينة العربية عامة والإسكندرية خاصة. وتضمن الخطوات الرئيسة للمخطط الشامل للحفاظ علي التراث والتوصيات الجوهرية لتحقيقها. ثم اقترح مسارا لجولات سياحية محددة.. لكن شيئا من هذا لم يتحقق. وإلي الأسبوع القادم إن شاء الله نواصل البحث فيما جاء به بائع الروبابكيا.