لا بد أن نعي أولا أنه لا يمكن أن نُحدث أي تقدم أو تنمية بدون تقويم سلوكياتنا، ولا بد أن نعترف أننا في أشد الحاجة لعلاج سلوكياتنا أولا، بداية من الأسرة والمدرسة والمؤسسة التي نعمل بها. فلا يمكن أن نقوم بأي عمليات إصلاح لمؤسساتنا دون إصلاح لنفوسنا وسلوكياتنا في المقام الأول؛ حيث إن السلوكيات السلبية تمثل عائقًا كبيرًا أمام الكثير من الإصلاحات التي عاهدنا أنفسنا عليها، فسلوكيات الشعوب تكون انعكاسًا لمدي تمدنهم وتحضرهم. فبالرغم من مباركة الثورة لحرية الرأي والتعبير عن أوجه النظر المختلفة، إلا أننا وجدنا بعض السلوكيات المنتقدة للأسف من بعض الأفراد الذين أخطأوا الفهم بمفهوم حرية الرأي علي أنها دكتاتورية الرأي، أو فرض آرائهم علي الآخرين، أو عدم احترام شيوخنا وكبارنا، فأصبحنا نجد علي الساحة وفي مشاهد كثيرة في وسائل الإعلام المختلفة والندوات والمؤتمرات حالة من انعدام الوزن، أو الفوضي في التعبير عن الرأي، وفوضي في الاختلاف، كلٌّ يحاول فرض رأيه علي الآخر. ويري جموع المثقفين والمفكرين أن الوطن يمر الآن بمحنة، وأن مستوي الأخلاق والسلوكيات ينحدر بشدة، الأمر الذي يستدعي صحوة مجتمعية للتصدي لهذه الظاهرة بقوة ضد فوضي السلوك وديكتاتورية الرأي، مع وضع ضوابط وقوانين صارمة لمثل هذه السلوكيات التي تعطل عجلة الإنتاج وتضر بالوطن في ظل إرساء مبادئ الشفافية والمصداقية والعدالة الاجتماعية، مع ضرورة التوعية المجتمعية من قبل مؤسسات المجتمع المدني بالدولة من مراكز الشباب والنوادي والإعلام والمؤسسات الدينية والأحزاب، وغيرها، لتدريب النشء علي تقبل رأي الآخر، وعدم الاستحواذ علي الرأي. وطبقًا لأساتذة علم الأجناس فلقد عُرف الأتراك والمصريون في الأسر المصرية التقليدية بصلابة الرأي والعناد، فجزء من مشكلة ديكتاتورية الرأي يكمن في توارث هذا السلوك عبر الأجيال، وشِقّ فيها يتمثل في عدم التدرب علي ثقافة تقبل رأي الآخر، نتيجة الأنظمة السلطوية التي مرت بنا عبر التاريخ. ولعل هذا الموضوع الذي يؤرقني من شبابنا ذكّرني بقصة طريفة منذ ما يقرب من ثمانية عشر عامًا عندما كنت بصحبة أسرتي، وكان ابني البكر محمد وهو لا يتعدي عامًا ونصفا، وكان منذ أن كان عمره شهورًا مغرمًا بطعم ورائحة القهوة وأنواعها إلي درجة عجز الكثيرون عن تفسيرها، علمًا أننا نرفض تمامًا أسلوب تدليل الأولاد فيما يسمونه أساليب التربية الحديثة، فكان ولا بد أن يشارك ابني أي ضيف في فنجان القهوة الذي يقدم له، بالرغم من الحرج الذي كان دائمًا يسببه لنا، وإصرارنا وحرصنا الدائم علي تقديم مشروبات الأطفال المفيدة له، ولكن بدون جدوي، وبإصرار وتصميم منه؛ حيث لا يوجد بديل عنده لمشروب القهوة أو النسكافيه الذي كان يعشقه. وذات مرة قررنا أنا وأسرتي أن نستريح من عناء اليوم بمدينة لندن البريطانية، فتوجّهنا إلي كافيتريا شهيرة بمنطقة بيكادلي رود، فما أن جاءت المضيفة لسؤالنا عن المشروبات التي نطلبها، فطلب أغلبنا فنجان النسكافيه أو الشاي، وحمدت الله أن ابني كان وقتها نائمًا نومًا عميقًا، فما أن جاءت المضيفة بالنسكافيه حتي أفاق ابني مرددًا كلمة "بوه أفيه" أي نسكافيه، دون جدال أو نقاش، وبإصرار لا رجوع فيه، وعندما حاولنا إقناع المضيفة أن تأتي له بفنجان صغير مزود ببعض الحليب لكي نفرغ له بعض قطرات النسكافيه منعًا للإحراج الذي سيسببه لنا لم تكن تصدق ما نفعله؛ لأنه طبقًا للقانون البريطاني لديهم أنه لا يسمح بأي كافيتريا تقديم الخمور أو السجائر لأقل من 18 عامًا، وأعتقد أن شرب القهوة بالنسبة للأطفال سيكون مندرجًا تحت هذه القائمة أيضًا، فما كان علي مدير الكافيتريا إلا التوجه مع بعض أفراد المضيفات بجميع أنواع مشروبات الأطفال واللعب أمام ابني لكن دون جدوي وبإصرار وبغضب شديد منه ليلقي بأي بديل للنسكافيه، وفي دهشة ومشهد لا ينسي أضحك كل روّاد الكافيتريا من الإنجليز والعرب. ولكن بالرغم من تيقننا أن ديكتاتورية الرأي قد تكون موروثة في الأصل في الجينات المصرية، وأن الموضوع لدي ابني قد لا يقتصر علي الإصرار علي شرب النسكافيه فقط عندما يشب، ولكن قد يمتد لأمور حياتية أخري، إلا أننا مع إصرارنا كأسرة وبالصبر والعزيمة نجحنا بحمد الله علي ترويض هذا السلوك الديكتاتوري فيه منذ الصغر من خلال متابعتنا المستمرة له لتقويم هذا السلوك، وتشجيعه علي السلوكيات السوية، وعلي مشاركة الحوارات المختلفة بملتقيات الشباب، وتدريبه علي تقبل رأي الآخر. فبإمكاننا تقويم أي سلوك سلبي لدينا من خلال الإصرار علي ذلك والصبر والتدرب عليه. وللحديث بقية في موضوع سلسلة تقويم سلوكياتنا.