سوف أعود بك الي ما يقرب من ثلاثين عاما كنت اسكن وقتها في حدائق شبرا وكان عم »خيري المنوفي« بواب عمارتنا رجلا ولا كل الرجال في الرجولة والادب والشهامة والاجتهاد في تحصيل الرزق- اللي يحب الخفية- كما كان يردد دائما فهو لا يخجل من عمل اي شيء تطلبه منه شيال او زبال او لغسيل المواعين طالما سيرزق ب »الجنيه« التي سوف يأتيه علي ما قام بتأديته من اعمال!.. انه مشغول بجمع الفلوس ولا شيء آخر وكثيرا ما كنت اضبطه يغني عشقا ممسكا ب »الجنيه« الذي منحته اياه مرددا قبالته بأغنية عبدالحليم »انا لك علي طول« ول »جنيه« آخر لابد وان تسمعه يغني وهو يضعه في جيب جلبابه »خليك هنا خليك« حرصا علي وضعه بجوار جنيهات اخري يكتنزها دائما- كما كان يقول- ممنوعة من الاستخدام في الصرف.. عاوز اشتري حته ارض ابني عليها »طربة« اندفن فيها! مازالت صورة عم »خيري المنوفي« منذ ان تركت الحي عالقة بذهني وما فتئت- علي رأي بتوع اللغة العربية- وقائع ما حدث له محفورة في ذاكرتي لم تقف الايام واحداثها ان تطمس معالمها او تمحو آثارها ذلك لانني دائما ما استعيد ذكراها في خاطري كلما دارت الايام وكرت »حلوة كرت دي مش كده«؟!.. كلما دارت الايام وكرت الشهور واقترب شهر رمضان ومعه عاداته من ترتيل القرآن وصوت الاذان بصوت الشيخ محمد رفعت والكنافة والقطايف وموائد الرحمن وروائح الطعام التي كانت تأتينا شمالية »ملوخية« او جنوبية »فيتامينية« كباب وكفتة تأتينا كالرياح من مطابخ »ام نبيل« و»ام عاطف« جيراننا في الشقق المقابلة!.. لم يتغير اي شيء.. ظلت التقاليد علي ما هي عليه ما عدا زفة الدراويش التي اختفت وكانت من العادات المتبعة التي تقام ساعة العصاري في احيائنا الشعبية حيث كان افرادها من الدراويش يرتدون افخر الثياب المزركشة وعلي الرأس »طرطور« شبيه ب »طرطور« محمود شكوكو ووراءهم رتل »وحشة دي«؟!.. ووراءهم رتل من الاطفال كل يحمل فانوسه مرددين خلفهم ما يقولون »بنت السلطان.. لابسه قفطان.. وحوي يا وحوي.. يا حبيبي تعال.. وافرش منديلك.. واحنا ننقي لك.. غير ما نغني لك.. وحوي يا وحوي«.. الي ان نقترب من بيوتنا في انتظار صوت المدفع وصوت المؤذن مرددا الله اكبر.. الله اكبر! ما علينا فالكلام اخذنا وخرجنا عن الموضوع ويرجع مرجوعنا الي البداية.. و.. اختفي عم »خيري المنوفي« عنا فجأة بعد ان ترك العمارة وطال غيابه شهورا فأيقنت انه قد انتقل الي جنة الخلد.. كنا في التاسع والعشرين من شعبان ولم يبق علي حلول شهر رمضان الا ساعات معدودة عندما فوجئت به قبل موعد السحور يقطع شارعنا ممسكا في يده »طبلة« ومعه بناته »سامية« وابتسام« و»سعدية« فسألته: انت فين يا عم خيري؟! رد قائلا: شغلة »البواب« يا ابني ما تأكلش عيش الايام دي.. قلت اشتغل مسحراتي.. جنيه من هنا.. اثنين من هنا.. خمسة جنيه من واحد مقتدر تبقي رضا.. ثم راح يدق علي طبلته دقات منتظمة وهو يردد »انا المسحراتي حيث اسحر واقول.. يا نايم اصحي واذكر المعبود.. واسمع لانغامي ودق الطبول.. انغامي رقة والنبي وفري جود.. ما تصحي يا ام فؤاد.. تم تم تم.. رمضان دا رقة وجميل.. تم تم تم.. يا نايم اصحي وقوم.. تم تم تم.. اشمط سحورك وصوم.. تم تم تم.. ياعم ابراهيم.. يا عم اسماعيل.. يا عم نبيل.. قوموا اسمعوا الاذان.. تم تم تم! قلت له: وماذا بعد ان ينتهي رمضان يا عم خيري؟! قال: يبقي ربنا من فضله وكرمه يرزقنا بالشغلانة اللي مقسومة لنا وتكون علي قدنا.. حاكم انا ما يموتنيش ولا يفرسنيش غير الفشخرة تشيلني من شغلة المسحراتي علشان تحطني علي مكتب واشتغل في مجمع التحرير ما انفعش.. علي قد حصيرتك مد رجلك ما تبقاش طماع وتخرج رجليك بره الحصيرة.. ثم اكمل يقول لي في ثقة: ان شاء الله حااشتغل مطرب شعبي! اعجبني تفكيره فدعوت له بالنجاح في مهنته الجديدة كمطرب بناء علي اعجابي بصوته الشجي عند سماعي له من قبل يدعو الناس للسحور.. يا نايم اصحي وقوم.. تم تم تم.. اشمط سحورك وصوم.. تم تم تم! وبالفعل من بعدها كثيرا كنت اشاهده في مولد سيدي الحلي بروض الفرج ينشد المواويل.. من داخل سرادق اقامه له علي حسابه الشخصي صديق »مزين« صاحب صالون حلاقة شهير كانت هوايته كتابة الزجل ايضا من مؤلفاته ما كان يردده »عم خيري« دائما.. واوعي تصدق بان لك حبيب دايم.. مهما يبان بانه بحضرتك هايم.. اصدق ما فيهم من بحر الكدابين عايم.. تلقاه يقولك علشانك مش بانام الليل.. وهو بيكلمك بص تلاقيه نايم.. آه آه آه ياليل! رحم الله عم »خيري« البواب المسحراتي المطرب الذي جرب كل هذه المهن ونجح فيها وآه لو كان مايزال علي قيد الحياة لقام وعملها بعد ان شاهد كل من هب ودب يقوم بترشيح نفسه لتولي منصب رئيس الجمهورية.. طمعا في ان يخرج »عم خيري« ولو مرة رجليه بره الحصيرة ولكنه مات قبل ان ينال المنصب للاسف!.. و.. العاشق في جمال النبي يكسب ثواب ويقرأ الفاتحة علي روحه!