»شاهدت ختام »كأس العالم» المصغر في مطار مقديشيو اشتركت فيه 12 دولة منها الكويت وأمريكا وفرنسا واليونان..وفزنا في النهائي علي السعودية وحصلنا علي الكأس» دائما يكون لأول مرة في حياتنا مذاق مختلف وذكري لا تنسي علي مر السنين.. فأول حب صادق يبقي مدي الحياة.. وعندما يخطو ابننا أولي خطواته تهتز لها أركان البيت فرحا.. ولا نمل أبدا من سماع أولي كلمات ابننا مرارا وتكرارا.. وأول مرتب نحصل عليه حتي لو كان جنيهات نشعر معه بأننا نملك البنك المركزي.. ولمذاق أول »شربة» ماء بعد 16 ساعة صياما طعم لا يوصف. رغم مرور ربع قرن مازلت اتذكر كل شئ بتفاصيله الدقيقة.. كان عام 1993.. وكان الجو شديد الحرارة وفي نفس الوقت الأمطار لا تتوقف إلا قليلا.. قبل سفري بأيام إلي العاصمة الصوماليةمقديشيو في أول مهمة عمل لي خارج الحدود المصرية أمسكت رزمة من اوراق »الدشت» الصفراء وذهبت لألتقي اصحاب »القبعات الزرقاء» قبل مغادرتهم في مهمة انسانية لفرض وحفظ السلام في ارض افريقية عربية إسلامية علي البحر الأحمر والمحيط الهادي اشتعلت فيها نار الحرب الأهلية في صراع علي من يحكم. لم أكن أعرف قبل سفري شيئا عن مشاركتنا في قوات الأممالمتحدة وحفظ السلام ولا عما حدث في الصومال الشقيق.. ومن كلمات قليلة من العميد أركان حرب عبد الجليل الفخراني قائد لواء فرض وحفظ السلام في الصومال عرفت ان مصر شاركت بقوات المظلات عامي 1960 و1961 في العمليات الإنسانية لبعثات الأممالمتحدة بالكونغو.. وبمجرد عودتي من لقاء الفهود المصرية ذهبت إلي أرشيف »أخبار اليوم» التاريخي لأجمع معلومات عن مهمتي الصحفية وجلست بين مجموعة من الدوسيهات المرتبة أحضرها لي عم »جمال» أتصفح قصاصات من الورق وأدون بعض الملاحظات والنقاط.. ووجدت أن مأساة الصومال بدأت منذ عام 1935 عندما قامت إيطاليا تحت قيادة »موسوليني» بغزو الحبشة لإقامة مستعمرة إيطالية وقامت القوات الإيطالية ومعها بعض الوحدات الصومالية بشن هجوم بري علي الصومال البريطاني في الحرب العالمية الثانية، وتمكنت من الاستيلاء علي مدينة بربرة وسقط الصومال البريطاني بالكامل في أيدي القوات الإيطالية..واستمرت أعمال القتال حتي عادت السيطرة البريطانية وأصبح الصومال في عام 1960 ثلاثة أقسام فرنسي وإيطالي وبريطاني.. واستقل الإيطالي والبريطاني وكونا جمهورية الصومالالمتحدة وأصبح الفرنسي في النصف الثاني من السبعينيات دولة جيبوتي.. وظل الحلم »بالصومال الكبير» يراود أذهان الصوماليين.. وصعد في أكتوبر 1969 محمد سياد بري إلي سدة الحكم وتبني سياسة شيوعية ماركسية وحكم البلاد بالعنف والحديد والنار ومنع الإشارة للعشائر مما زاد من الحنق الشعبي عليه وخاصة مع تصاعد المشاكل الاقتصادية.. فسقط نظام »بري» في يناير 1991 واندلعت حرب أهلية وفشلت جميع الجهود لإعادته للحكم او إقامة حكومة دستورية وأعلن الأقليم الشمالي انفصاله تحت مسمي »جمهورية أرض الصومال».. ودخلت بقية المحافظات في حرب مريرة.. ورصدت التقارير انتشار المجاعة ووفاة 30 ألف صومالي من الجوع وصدر قرار الأممالمتحدة في بداية عام 1993 بتشكيل قوات »اليونوصوم » لتوفير الإغاثة الإنسانية للصوماليين وإعادة النظام والانضباط.. وكانت مصر من ابرز المشاركين في مهمة فرض وحماية السلام بداية بكتيبة واستكملها إلي لواء. جبال الثلج بعد رحلة استغرقت 4 ساعات ونصف وصلنا إلي مطار مقديشيو.. المشهد من النافذة الصغيرة بالطائرة البوينج مختلف عما تصورته.. الخضرة تفترش مساحات كبيرة..الطائرة تخترق جبالا من الثلوج فوق المحيط الهادي لتتجه إلي الممر الذي يقع طرفه علي خليج عدن في مدخل البحر الأحمر.. ظلت عيناي تتابعان لحظات الهبوط وحديث بيني وبين نفسي ماذا سنقابل بعد هبوطنا؟.. هبط بنا الطيار المصري بمهارة وسط امطار غزيرة وأنا أشاهد طائرات الهليوكوبتر تحوم في كل مكان والقطع البحرية تفترش مياه الخليج.. المطار قطعة ارض كبيرة ملاصقة للميناء.. ويصل إلي مسامعنا اغنية »مصر يا أم الدنيا» وأشاهد عددا من الفهود المصرية يقفون بانتظام وجدية اسفل الطائرة فهم في طريقهم للعودة إلي القاهرة في اجازة..وتهبط معنا إلي ارض المطار المجموعة الجديدة من الفهود المصرية التي تتميز بأجساد قوية ولياقة بدنية عالية وزي نظيف وفوق رؤوسهم »خوذة» مدون عليها u.n» » الأممالمتحدة وعلي أكتافهم نفس الإشارة يزينها العلم المصري.. يستقبلنا العقيد مصطفي السيد رئيس أركان اللواء المصري. وتستمر الأمطار الشديدة مع الرطوبة العالية طوال اليوم وحتي السابعة مساء لم تتوقف سوي 25 دقيقة فقط صلينا فيها »الجمعة».. نمر في ممرات المطار تحيط بنا طائرات مدنية وعسكرية محطمة ونصل إلي مقر قيادة القوة المصرية نضع الشنط في حجرة سقفها مرتفع جدا يقف عليه ثلاثة او أربعة كائنات خضراء ضخمة لا اعرف حتي الآن اسمها ولكنها تشبه »البرص والسحلية».. واختار مرتبة علي الأرض لأنام عليها. نستريح قليلا ثم نجلس مع أبطالنا وأتذكر كلمات العميد عبد الجليل الفخراني ان مهمة قواتنا تنحصر في شقين الأول استعادة السلام بين الفصائل الصومالية المتناحرة والثاني توصيل وتأمين مواد الإغاثة والإمدادات المختلفة للشعب الصومالي الإفريقي المسلم العربي الشقيق.. وأعلم ان التعليمات المستمرة لقواتنا ان الصوماليين إخوة ودورنا إنقاذهم وحسن المعاملة لهم وبذل اكبر قدر من المساعدة لهم.. وبصراحة كان هذا هو الواقع الذي شاهدته وايده شهادة الصوماليون والعلاقات القوية الوطيدة التي ربطت بينهم وبين مقاتلينا الذين عاملوهم بالشهامة المصرية والحفاظ علي عاداتهم وتقاليدهم.. ويقول لي العقيد مصطفي السيد ان مسئوليتنا الأساسية تأمين مطار مقديشيو وهو الوسيلة الرئيسية لوصول الإمدادات ومواد الإغاثة وهو الآن مؤمن بالكامل ويستقبل بالإضافة إلي طائرات الأممالمتحدة ما بين 3و5 رحلات يوميا من كينيا. زوجة صومالية في مطار مقديشيو وجدت كل قارات العالم مجتمعة.. فهناك 29 دولة مشاركة في عمليات »اليونصوم» منها بنجلاديش وفرنسا وألمانيا واليونان والهند وأيرلندا والكويت والمغرب والسعودية والسويد والإمارات وأمريكا وزامبيا حتي اسرائيل استغلت الموقف وأرسلت كميات من عبوات الألبان والعصائر والمياه المعدنية.. لم تقتصر مهمة قواتنا علي تأمين المطار بل تعدي ذلك إلي المحافظة علي السلام وانتظام العمل وعودة الحياة الطبيعية وتوفير فرص العمل للصوماليين.. ووضعت قيادة »الفهود المصريين» دراسة للمكان ووجدت ان هناك مساجد ومدارس وعيادات لا تعمل.. وتم حساب ما تحتاجه من مواد خام لترميمها وتم الاتفاق علي توفيرها من الأممالمتحدة.. وفتح الباب أمام الصوماليين للعمل علي اصلاح تلك المباني مقابل أجر بالإضافة إلي عملهم في النظافة وتطهير المدينة لحمايتهم من الأمراض وهو ما كان. قضيت يومي الأول داخل المطار أتحاور مع فهودنا في بلد شقيق يجمعنا بهم أصولنا الإفريقية والدين واللسان العربي لامست عن قرب مدي احترام العلم المصري والحب والتقدير الذي يجمع بين القوة المصرية والصوماليين.. تجولت في معسكر »خالد بن الوليد» ووجدت ان القيادة العامة لقواتنا المسلحة وفرت كل شئ يحتاجه رسل السلام من أصحاب الوجه البشوش والانضباط والشهامة والعمل الجاد واستمعت خلال يومي لحكايات وحكايات عن الدور المصري البارز الذي نال استحسان وشكر الجميع وحكي لي بعض الفهود عن عمليات إصلاح البنية الأساسية وإعادة تكوين وتدريب قوات الشرطة.. وأذهب مئات الأمتار القليلة لأحضر تقديم المساعدات إلي أهالي إحدي القري الملاصقة للمطار وتجذبني فتاة سمراء رائعة الجمال وتحكي لي كيف أن المصريين يساعدون أي بنت أو سيدة تخشي من مهاجمة اللصوص وتوصيلها إلي قريتها سالمة.. وقالت: أشقاؤنا أنقذوا فتاة من الاغتصاب علي يد مسلحين.. ويداعبني احد رفقائي قائلا إن الفتاة تريد الزواج مني والسفر معي إلي مصر وتتعالي الضحكات بعد ان تغطي حمرة الخجل وجهها الأسمر. كأس العالم المقاتل المصري في مقديشيو معروف للجميع واسم مصر يتردد علي كل لسان ودائما يقولون إن المصري والصومالي »لالو» والتي تعني إخوة باللغة الصومالية.. جولة في شوارع مقديشيو تظهر لك مدي المأساة.. فالمباني مهدمة والمصانع متوقفة والسكان بدون عمل ويعيشون في أكشاك خشبية والأطفال والنساء وكبار السن يمدون ايديهم لطلب المساعدة.. لقد عاد الصوماليون إلي عصر الفحم بعد توقف مصانع تكرير البترول.. العربات القليلة في الشوارع قديمة ومتهالكة بدون ابواب أو شبابيك.. الركاب داخلها وخارجها وفوق سقفها..العمل نادر والتجارة تمارسها العصابات المسلحة في البضائع المنهوبة بسوق »البكارة» الدولار أصبح ب6 آلاف شلن صومالي وأقصي ما وصل له قبل الانهيار 600 شلن والجمل ب150 دولارا والخروف ب15 دولارا والفاكهة بالعدد 8 »مانجات» أو 35 إصبع موز بدولار.. كانت الصومال قبل الانهيار تنتج 55 مليون رأس ماشية هلك معظمها بسبب الحرب لا جمارك او ضرائب. المعسكر المصري »خالد بن الوليد» متكامل أماكن للمبيت وكل سرير عليه ناموسية وهناك مطبخ ومخبز وملاعب وإذاعة ومستشفي بطاقة 25 سريرا يستقبل يوميا مابين 50 و75 صوماليا يقدم لهم العلاج والدواء..وشاهدت ختام »كأس العالم» في كرة القدم بمطار مقديشيو اشتركت فيه 12 دولة منها الكويت والإمارات وأمريكا وبنجلاديش وباكستان ونيوزيلاندا وفرنسا واليونان.. وفزنا في النهائي علي السعودية وحصلنا علي كأس البطولة وسط عاصفة من المشجعين الصوماليين.. لقد قضيت 3 ايام مع الفهود المصرية في ارض الصراعات وتجولنا في العربات المدرعة وزرنا قيادة قوات »اليونصوم» والتي أكدت أن الحل الحقيقي في يدهم لوقف الحرب وإعادة البناء..وتقابلت مع اطفال وشباب تركوا التعليم ويعانون من ويلات الحرب والسلب والنهب وبلطجة من يحملون السلاح او عصا في نهايتها سكين.. زرت كتاتيب تابعة للأزهر فآثار الدور المصري بعد ثورة يوليو في الصومال مازالت باقية.. وحضرت قبل مغادرتي حفل شواء علي ضفاف المحيط الهادي غطي خلاله علي الأغاني المصرية وحلاوة الطعام الحديث عن هجمات القروش علي افراد البعثات الأخري اثناء السباحة. حكاية الصومال لم تنته بزيارتي أو برحيل الفهود المصرية وقوات »اليونوصوم» في نهاية التسعينيات فمازال الصومال يتخبط رغم مرور اكثر من 25 عاما فجروح الصراعات والحرب الأهلية لا تلتئم مع السنوات وربما تتقيح وتحتاج للبتر فنعمة الأمن والأمان لا توازيها نعمة.. وإعادة البناء يتطلب شعبا متوحدا وبذل المزيد من الجهود. حفظ الله مصر والمصريين.