لم تكن أمريكا صافية النية أو راغبة في إغاثة الجوعي والمطحونين عندما طلبت تدخل الأممالمتحدة في بلاد «بُنت» فقد كانت لها مأرب أخري. هكذا بدأ «ابن بطوطة» حديثه في جلستنا الثانية عن زيارته لأرض «الآلهة والعطور والبخور».. أخرج من جيبه خريطة القرن الأفريقي وقال: توجهت قوات «اليونصوم» بزعامة أمريكية إلي الصومال وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش «الأب» أنها مهمة إنسانية قصيرة المدي لن تتعدي العامين لينهوا المجاعة ويرحلوا !. ولكن لم تنتهِ المهمة «المزعومة» كما وعد «بوش»، فقد تم إقناع خليفته «بيل كلينتون» بتمديدها حتي إقامة حكم مدني صومالي.. وخلال المدة التي قضاها الأمريكان في بلاد «بُنت» أذاقهم الصوماليون مرارة الوجود فوق الأرض العربية.. لأن هدفهم الأساسي لم يكن الإغاثة والإنقاذ من المجاعة ولكن طمع في بترول الصومال، فعندما تم الإطاحة بنظام «سياد بري» كانت ثلثا الأرض الصومالية قد قدمت تنازلات لأربع شركات أمريكية كبري لاستخراج النفط بالإضافة إلي أن الموجود في الصومال «المفككة» واليمن «المتناحرة» يصبح مسيطرًا علي «باب المندب» والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر وطريق التجارة بين الشرق والغرب عبر قناة السويس. يسرح صديقي «ابن بطوطة» لحظات ويقول : في البداية رحب الصوماليون بالمعونات الغذائية تحول بعد ذلك إلي كراهية للأمريكان خاصة مع تنامي فكرة الغزو والتوسع الأمريكي.. وتركيز الأمريكان علي اعتقال « محمد فارح عيديد» أحد زعماء الحرب في الصومال.. ووقعت مجازر واشتباكات مسلحة وكمائن للقوات الأمريكية ومن أشهرها معركة مقديشيو في 3 أكتوبر 1993 والتي قتل فيها 19 أمريكيا تم سحلهم في الشوارع بعد إسقاط طائرتي هليكوبتر من طراز «بلاك هوك».. وحكي لي بعض الصوماليين عن الكمائن التي كان ينصبونها لقوات الاحتلال الأمريكي وقصفهم بالهاون تجمع القوات الأمريكية بمطار مقديشيو حتي إن الأمريكان أحضروا أحدث رادار أرضي لرصد مواقع القصف المدفعي.. وفشلوا في القبض علي أحد لأن الصوماليين كانوا يقومون بنصب «الهاون» فوق أحد المنازل البعيدة ويضعون مصححًا للرمي بالقرب من المطار فتسقط القذائف بدقة فوق القوات الأمريكية دون غيرها.. وعندما تصل الدوريات إلي مكان القصف لاتجد أحدًا لأنهم حملوا الهاون وهربوا.. كما كان الصوماليون يضعون الألغام في طريق قوات اليونصوم.. ويحذرون قواتنا من المرور في تلك الطرق. يفتش صديقي العزيز في دفتر ذكرياته ويقول : بصراحة الحياة التي شاهدتها خلال الأيام الأربعة التي قضيتها في مقديشيو كانت في منتهي الصعوبة فمن السهل أن تتعرض للخطف أوالسرقة أوالقتل في لحظات.. ولكن مع كل هذا الرعب والفوضي وعدم وجود دولة وجدت حبًا لايوصف للقوات المصرية وعشقًا لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ.. ووجدت الأزهر بشيوخه وإسلامه الوسطي قائمًا وشوارع تحمل اسم الزعيم جمال عبد الناصر.