إذا بلغك أن غنيا افتقر فصدق، وإذ بلغك أن حياً مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق إستفاد عقلا فلا تصدق". هكذا تكلم الشيخ جمال الدين بن عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي في كتابه "أخبار الحمقي والمغفلين"، ذلك أنه من باب الجحود ومجافاة الحقيقة أن تنكر تقلبات الأمور وطارئ الأحوال في إمكان افتقار الغني، فهذا وارد ومحتمل، وهو من طبائع الأشياء وقانون السوق وحكم المعاملات ودولة الأيام، وكذا لا يمكنك أن تنكر أن حياً مات فتلك سنة الحياة وما نحن فيها مخلدون، أما أن تصدق أن أحمق قد استفاد عقلاً فهذا ماينكره عليك ابن الجوزي، ويدخلك بسببه في أوسع أبواب الحمق والغفلة. شيء من هذا تراءي أمامي بينما أتابع ذلك السامر المنصوب في بلادنا المحروسة تتنابذ فيه الأغلبية والمعارضة الألقاب ويقوم البعض بسب البعض وتحقير الآخر واتهامه ووصمه ومعايرته بالجهل والضعف والتسلط والتحكم والتزوير، ناهيك عن كل ما يمكن أن يقال في سوء التقدير وسياسات الإقصاء والتهميش وإحباط الناس وتكدير المجتمع والإساءة إلي صورته والتلاعب بمستقبل البلاد ومغبة المغامرة ونزق الطموح، والأمر لايخلو من شق الجيوب ولطم الخدود واستدعاء تراث طويل في لزوم ما لايلزم وكأنها حرب داحس والغبراء أو حرب البسوس واستحضار قبائل عبس وذبيان وطئ وهوازن واستدعاء بطولات الموت والرعونة عند كليب وجساس والمهلهل والزير سالم وعنترة بن شداد ومالك بن زهير، أي حماقة هذه وأي مضيعة للوقت والجهد وقلة القيمة؟ أن تتصرف النخبة بمثل ماهي عليه الآن فذلك من باب الحمق والغفلة، وعدم تقدير المسئولية ومجافاة قواعد العقل ومنطق العصر وحدود قواعد وأدبيات السياسة. والسياسة في جوهرها تسليم بحركة التاريخ ومنهج التعدد وآليات التقدم، ولقد تجلت حكمة التاريخ وتجربته وربما معاناته عبر عقود طويلة من نضالات الناس وعذاباتهم في الحروب الدينية الأوروبية، وحرب السبعين عاما بين فرنسا وألمانيا والحرب الأهلية الأمريكية والحربين العالميتين الأولي والثانية وما تلاهما في الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني وحروب العولمة الظالمة وغيرها. لكنها السياسة لا تتعلم أبداً من التاريخ أو تتأسي بحكمته وخبراته. إن كل ما مر بالبشرية من حروب ومعارك كانت جميعا تنويعات علي تيمة واحدة هي قناعة الفرقاء كلٍ دون الآخر بأنه وحده يحتكر الحقيقة وله وحده كل الحق في تقرير المصير والمصلحة والمفروض والواجب، وهنا يبدأ الصراع وهو يأخذ في كل مرة سمتا جديدا وأشكالاً مغايرة، فيها أبعاد الثقافة والسياسة والاقتصاد وربما السلاح أيضا. يتحول الصراع من غايات وآمال وطموحات إلي أفكار وبرامج وممارسات ثم يتحول إلي معارك ومواجهات وتعقيدات، ذلك أن ما يريده طرف في معادلة الصراع لا يرضاه الطرف الآخر أو يقبله، فتبدأ محاولات فرض الإرادة ثم شواهد صدام الإدارة ويتحول التاريخ من إدارة التقدم إلي إدارة الصراع. علي أن أخطر ما واجه الإنسانية عبر مسيرتها هو تحول الصراع إلي قانون حاكم مؤداه البقاء للأقوي. إنها "الداروينية الاجتماعية" كما رآها الفيلسوف الإنجليزي "هربرت سبنسر" الذي جذبته العلوم التجريبية وأثرت فيه نظرية دارون للنشوء والارتقاء والتطور "نظرية الانتخاب الطبيعي" والبقاء للأقوي. تلك النظرية التي علي أساسها قامت صيحات الليبرالية الجديدة ومارست النخب الرأسمالية وصايتها علي الطبقات الفقيرة بزعم أن الإنسان نتاج الوراثة والبيئة، وأن الفروق في حظوظ الناس من الطبقة والثروة والسلطة هي بفعل قوانين الطبيعة التي لا يمكن تغييرها. وهنا تتجلي إنتهازية السياسة في تطويع العلم لأغراضها، بينما تمارس البلادة ولا تتعلم من التاريخ. هي إذن محاولة جديدة للاحتكار، تبدأ باحتكار الفكرة لتنتهي باحتكار السياسة والسلطة والثروة والوطن. وانفتح الباب واسعاً أمام أسباب الصراع داخل الممالك والإمبراطوريات والدول، وسواء كانت أسبابه ثورة ضد الإقطاع أو الامتيازات الطبقية أوالنفوذ الديني أو لإحداث تحولات سياسية واجتماعية لصالح أغلبية معدمة وفئات مهضومة، إلا أن ذلك كله ورغم نبل مقاصده لم يخل من تحكم ذهنية نفي الآخر واستبعاده، أو في أرحم التصورات استئناسه وتدجينه وقهر طموحاته. وهنا تحتقن ثنائية الأغلبية والأقلية أو الحكومة والمعارضة. علي أن أخطر ما جرته ممارسات السياسة محدودة الأفق هو حالة التوحد أو مرض الأوتيزم، حيث لا تسمع الأغلبية إلا نفسها ولا تري إلا تصوراتها ولا تستجيب لمطالب القوي الفاعلة في المجتمع ولا تعبأ بنداءاتها وإلحاحها. هذه هي حالة الأوتيزم السياسية التي نحذر من الانزلاق اليها والوقوع في غياباتها. شيء من هذا يحدث الآن وعلي مرمي البصر منا في ممارسات السياسة اليومية بين الأغلبية والمعارضة. تمارس الأغلبية حالة التوحد أوالأوتيزم، وتلعب المعارضة دور "السيكلوب" أو الوحش الخرافي ذي العين الواحدة كما في إلياذة هوميروس وملحمة جلجامش، فلا تري في الأغلبية أو الحكومة إلا فريسة ينبغي الإجهاز عليها، ولا تري في أعمالها إلا الفشل والفساد والتسلط. إنها عذابات السيكلوب وعينه الواحدة التي تحتم عليه منظوراً واحداً للرؤية تختلط فيها الحقائق بالأوهام والأقاويل والخرافة. وهكذا تتسع المسافات بين الفرقاء مخلفة هوة كبيرة لا تفارقها طموحات الناس وتطلعاتهم، ولا تتجاوزها تكاليف العدالة والنهوض والتقدم وبرامجهم ورهاناتهم. علي أنني أختلف مع ابن الجوزي ومشايعيه، حيث أري أن حماقة المعارضة و سيكلوبيتها هي مقابل ل أوتيزم الأغلبية وغفلتها. كيف؟ للإجابة أحيلك إلي الشيخ أبي علي التنوخي في كتابه" المستجاد من فعلات الأجياد " حيث قال: كان لعبد الله بن الزبير أرضاً مجاورة لأرض معاوية بن أبي سفيان، قد جعل فيها عبيداً من الزنوج يعمرونها، فدخلوا علي أرض عبد الله، فكتب إلي معاوية: أما بعد يا معاوية، فامنع عبدانك من الدخول في أرضي وإلا كان لي ولك شأن. فلما تسلم معاوية الكتاب، وكان إذ ذاك أمير المؤمنين، قرأه علي ابنه يزيد، ثم سأله: يا بُنيّ، ما تري ؟ قال: أري أن ترسل إليه جيشاً أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه. قال: أوَخَيْر من ذلك يا بنيّ؟ (ماعندكش أحسن من كده)، ثم أمرعليّ بدواة وقرطاس، وكتب: وقفتُ علي كتاب ابن حواريّ رسول الله، أي تسلمته، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هّينة في جنب رضاه. وقد كتبتُ له علي نفسي صكاً بالأرض والعبدان، وأشهدتُ علي فيه، فلسيتضفها، أي يأخذها، مع عبدانه إلي أرضه وعبيده. والسلام. فلما قرأ عبد الله كتاب معاوية كتب إليه: وقفتُ علي كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحلّه من قريش هذا المحل، أي جعله أميراً للمؤمنين. والسلام. فلما تسلم معاوية كتاب عبد الله، رماه إلي ابنه يزيد، وقال له: يا بنيّ، إذا بُليت بمثل هذا الداء، فداوه بمثل هذا الدواء. هكذا فعل داهية السياسة معاوية بن أبي سفيان مع واحد من كبار معارضيه، فإذا به يتحول من الغلظة والتطاول إلي اللين وحسن الأدب. لماذا لا نتأسي بالسلف ونعقل التاريخ ونستلهم التراث. فلتقل المعارضة ما تشاء، هذا حقها وهذا دورها، غاية ما نرجوه منها عفة اللسان وموضوعية البيان ويقظة الفرسان، عدا هذا فلها ما تشاء من نقد ورأي واختلاف. ولتحسن الأغلبية الرد والتفنيد والحوار. لماذا لا تعقد جلسات استماع بين رموز وطنية لها احترامها وبين معارضي الرأي والأحزاب والصحافة، ولندخل في حوار يقولون ما لديهم ونتلمس معا الرأي والمشورة. هم يظلون علي معارضتهم والأغلبية تظل علي موالاتها لكن في مناخ من إشتباك الأفكار والسياسات لا تشابك الأيدي وشق الجيوب. ياأخي "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، ولا أحسب أن بين الموالاة والمعارضة عداوة، هي فقط حالة استقطاب السياسة في بلادنا وجمود ذهنيتها عن المبادرة والتعلم من التاريخ، ولعل في الحوار مخرجا.