وكما أن الجسد يتم أسره أحيانا فإن النفس يتم أسرها غالبا ، وذات لحظة جلست نفسي المأسورة قطعا تبحث عن خلاص لذلك التردي الذي وقعت فيه أمتنا ، حتى أن مباراة كرة شغلت أمة بأسرها وأنهكتها وجعلت من الحماقة إعلاما ومن الحمقى سادة ورؤساء .. ولأن النفس إذا أصابها ألم جلست مع صاحبها وأسّرت في قلبه بعض أسرارها ، فقد جلست نفسي معي وتحدثت بصوت خفيض وسألتني عن الحماقة والحمقى فقلت لها وقد رفعت صوتي : عن أي أحمق تسألينني ؟ عن أولئك الذين قادوا الأمة إلى ما هي فيه ؟ فأنبتني نفسي وقالت أليس من الحماقة أن ترفع صوتك في مثل هذا الموقف الذي تسيّد فيه الرعاع والسوقة والدهماء .. عدت لنفسي وأنا أقول لها بصوت خفيض : قرأت في أخبار الحمقى والمغفلين عن أبي إسحاق .. قال أكرمه الله : إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق، وإذا بلغك أن فقيراً استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حياً مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمقا استفاد عقلاً فلا تصدق. وقرأت أيضا عن أبي يوسف القاضي الذي قال : ثلاث ... صدق باثنتين ولا تصدق بواحدة، إن قيل لك إن رجلاً كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدق، وإن قيل لك إن رجلاً فقيراً خرج إلى بلد فاستفاد مالاً فصدق، وإن قيل لك إن أحمقا خرج إلى بلد فاستفاد عقلاً فلا تصدق. أما الأوزاعي فقد قال : بلغني أنه قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتى؟ قال: نعم بإذن الله. قيل وتبرئ الأكمة؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني . وبعد أن تحدثت مع نفسي عن الحمقى أبعدنا الله عنهم ووقانا من شرهم أردت أن أتعالم عليها وأذكرها ببعض الأقوال المأثورة التي أخرجتها ذات يوم من نفسي المأسورة وقد ظنت نفسي أن أقوالها هذه هي خلاصة خبرة السنين إن كان هناك خبرة جدلا وحكمة التجارب ، ورغم أن الحكمة كانت تقتضي إخفاء هذه الأقوال ، إلا أن الحماقة أعيت من يداويها .. وهاهي بعض أقوالي المأثورة التي استودعتها كراستي . ( " لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا " قالها سيدنا علي بن أبي طالب فسمعناها ثم جعلنا من أنفسنا عبيدا لغيرنا ، أما طاغور فقال " ثقيلة هي قيودي والحرية هي مناي ولكنني لا أستطيع أن أحبو إليها فمن استعبدوني رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطا بيني وبين حريتي " أما عندنا فقد أصبحت لافتات الفضيلة هي جدران السجن الذي يتم استعباد الغافلين فيه ) (( عندما ننظر إلى القمر في ليلة اكتماله فإن نوره سيستلب عيوننا ويخطف أفئدتنا إلا أننا لن ندرك تحت وطأة هذا النور أن القمر ما هو إلا جسم معتم شديد الظلام والوحشة كثير الصخور والحفر )) (( عندما يتسلق الإنسانُ بدأبٍ وإصرار الجبلَ ليصل إلى القمةِ فإنه سيصل حتماً ولكن ينبغي عليه أن يعلمَ أن الغيوم َوالسحبَ تحيطُ بالقمةِ من كل جانب )) (( هناك من لا يستطيع أن يكون إلا نفسه ، يمارس قناعاته حتى ولو خاصم من أجلها الدنيا ، وهناك من يستطيع أن يكون غير نفسه يمارس طموحاته حتى ولو صادق من أجلها الشيطان ، وكلاهما ممقوت ومرضي عنه في آن واحد ، فالأول ممقوت من الناس ومرضي عنه من الحق والثاني ممقوت من الحق ومرضي عنه من الناس )) (( شتان بين من يطلب الحق فيخطئه وبين من يطلب الباطل فيصيبه .. الأول أخطأ والثاني أصاب ، ولكن خطأ الأول صواب لأنه اجتهد للحق وصواب الثاني خطأ لأنه انتصر للباطل )) ( وكأن عمر الإنسان سفينة استوت على الماء لا يملكها إلا من خلقها وبث فيها الحياة ولا يديرها ويوجه دفتها إلا صاحبها ، وكأن قلب الإنسان كنز من المشاعر فإذا تألم تأوه وإذا تأوه عرف الناس ألمه لكنهم لن يشعروا بقدر الألم الذي يُعانيه ) ( تستطيع أن تحيا بعقلية النملة ولكنك ستعيش أبد الدهر مخبوءً خافت الأثر بين الحفر حتى ولو كنت في قمم الجبال .. أما إذا امتلكت عقلية الطير فثق أن العالم سيسمع تغريدك وأنت تحلق في السماء ) (( ولكن رجع الصدى عاد إلى صاحبه مكللا بالحزن والألم ، وي كأنه بكى وقتها كما يبكي الرجال ... هل تعلم كيف يبكي الرجل ؟ يبكي قلبه ورأسه مرفوعة وشفته منفرجة عن ابتسامة خفيفة خفية ، لا ينكس رأسه أبدا ، هكذا يكون الرجل وهكذا بكى صاحبنا )) وبعد أن تحدثت بهذه الحكمة المأثورة مع نفسي قلت لها : ما قلته آنفا هي مجرد كلمات مأثورة لعل أحدهم يتفرس فيها فينتفع بها ، فقالت لي نفسي وقد أبدت انزعاجها : إن من الحكمة أن لا أجلس معك في مكان واحد أبدا .. سلام يا صاحبي [email protected]