عام ميلاديّ مضى بكل ما مرّ فيه من تجارب وهموم ومشاكل، وعام ميلادي جديد يستقبله الناس على اختلاف مشاربهم ونحلهم ما بين مفكّر فيما مضى، وما بين مشغول بما هو آت، والعمر أيام مجموعة فمن مرّ يومه مرّ بعضه، ومن مرّ بعضه يوشك أن يمرّ كله. وقد قيل: من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شرًا من أمسه فهو ملعون. كان الناس قديما يتعاملون مع مرور الأعوام بمنطق غير الذي صرنا نتعامل به، كان مرور الأيام والسنين يزيدهم حكمة وتعقلا وتعلمًا من الزمن وأيامه واكتنازا لدروسه وعبره، فأصبح مرور الأيام يزيدنا شره وتطلعات مادية لا تنتهي ولا يمكن تلبيتها، وأحسب أن تزايد الشرهة للاكتناز المادي وتكثير الأموال بأثر من تزايد معدلات العلمنة، فجوهر العلمانية هو الاهتمام بالآني والعاجل من الأمور، وسيادة الأفكار البرجماتية، والبرجماتي لا ينظر إلا تحت قدمه، لا صبر عنده لغد، ولا يقين لديه في مستقبل، ولا احتمال بالخير قادم، هو يحصر ما يريد فيما بين يديه وتحت قدميه وما تقع عليه عيناه. وما بين طموحات بالاستكثار المادي لا تنتهي وأعوام تمر أو بالأحرى تتسرب بين أيادي البشر كما يتسرب الماء من كف الصغير وكما يقبض الكبير على الريح تنتهي الحياة. وكذلك السنين والأعوام، كل عام فجر جديد لا يعود إلى يوم القيامة، أيام تنتهي وأعمار تمر يحسبها الإنسان جامدة وهي تمر مر السحاب، صحيح يبدو أنها تمر ببطء لكن كل يوم يمر لا يعود، وكل عام يقربنا من الموت أكثر ومن مات قامت قيامته ولا يجد أمامه إلا ما قدم إن كان خيرا فليحمد الله، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلى نفسه. كان الحسن البصري دائما يردد: (ما من يوم ينشق فجره وإلا وينادي يا ابن آدم: أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة). وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام " (أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة). وقال الحسن البصري: (أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم). وقال عمر بن عبد العزيز: (إن الليل والنهار يعملان فيك فأعمل فيهما). وقديما قالوا: (من علامة المقت إضاعة الوقت). والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والحياة هي مراقي الفلاح، في مدارج السالكين إلى رب العالمين، وما أصدق ما قال الإمام حسن البنّا عليه الرحمة والرضوان "الوقت هو الحياة". وكان يؤكد دائما على محبيه وتلاميذه: "أن الواجبات أكثر من الأوقات". وكان السلف يعتبرون من كفران النعمة ومن العقوق للزمن أن يمضي يوم لا يستفيدون منه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمت عل شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). ومن مواعظ ابن الجوزيّ: "يا من قد وهى شبابه، وامتلأ بالزلل كتابه، أما بلغك أن الجلود إذا استشهدت نطقت؟! أما علمت أن النار للعصاة خلقت؟! إنها لتحرق كل ما يلقى فيها، فتذكر أن التوبة تحجب عنها والدمعة تطفيها". كم من جداول لضبط الحياة وتنظيمها لا تتم، وكم من وعود بالصلاح لا توفى، وكم من نيات صادقة لم يتبعها عمل، وكم من أماني علقناها على وجود فراغ لم يأت. وكانت من رعونات النفس التي قال فيها ابن عطاء: "إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس". صحيح، أي رعونة هذه التي تعلّق على ما لا يأتي وتشترط ما لا يحدث. والإحالة على الشيء هو التعليق عليه والمراد هنا توقف الأمر عليه بحيث لا يتوجه له حتى يتيسر وجوده، والفراغ من الشيء خلوه منه وفراغ القلب خلوه مما يشعر به وفراغ الجوارح خلوها من الأشغال والرعونة نوع من الحمق. يقول ابن عجيبة في شرحه لتلك الجوهرة من جواهر حكم ابن عطاء الله: "من آداب العارف أن يكون كامل العقل ثاقب الذهن، ومن علامة العقل انتهاز الفرصة في العمل ومبادرة العمر من غير تسويف ولا أمل إذ ما فات منه لا عوض له وما حصل لا قيمة له وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا وإن من علامة العقل التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتزود من سكنى القبور والتأهب ليوم النشور. وقال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وفي صحف إبراهيم عليه السلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عزّ وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث: تزوّد لمعاد، أو مَرَمَّةٍ لمعاش، أو لذة من غير محرم. وعلى العاقل: أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. فإحالتك الأعمال وتأخيرها إلى وقت آخر تكون فيه فارغ القلب أو القالب من علامة الرعونة والحمق وهو غرور ومن أين لك أن تصل إلى ذلك الوقت، والموت هاجم عليك من حيث لا تشعر، وعلى تقدير وصولك إليه لا تأمن من شغل آخر يعرض عليك وفراغ الأشغال من حيث هو نادر لقوله عليه السلام نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ. أي كثير من الناس فقدوهما وغبنوا فيهما إذ كثير منهم لا تجده إلا مشغولا بدنيا أو مفتونا بهوى ومريضا مبتلى. ومفهوم الكثير إن القليل من الناس رزقهم الله الصحة والفراغ فإن عمروهما بطاعة مولاهم فقد شكروا وربحوا ربحا عظيما، وإن ضيعوهما فقد خسروا خسرانا مبينا وكفروا بهاتين النعمتين فجدير أن يسلبا عنه. وهو أيضا من علامة الخذلان، والخذلان كل الخذلان أن تقل عوائقك ثم لا تقبل عليه، فالواجب على الإنسان أن يقطع علائقه وعوائقه ويخالف هواه ويبادر إلى خدمة مولاه ولا ينتظر وقتا آخر. والبصير الصادق من يضرب في كل غنية بسهم لا تجده مشغولا إلا: بفكرة، أو نظرة، أو ذكر، أو مذاكرة، أو خدمة دين، أو إنهاض أمة، أو إقالة عثرة، أو عمل لمحتاج، أو شغل لاعفاف، أو تربية لأسرة. وهي الانشغالات العشر بين الضرورة والاحتياج، وما بين الواجب والمباح، وما بين حقوق الفرد وحقوق الأمة. والعاقل من قطع عوائقه ونظّم علائقه. من خير الكلام: أوحى الله إلى داود: يا داود، لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم لذابوا شوقا إلي، يا داود، هذه رغبتي في المدبرين عني، فكيف محبتي في المقبلين عليّ.