أعجبني كثيرا ذلك التعليق الذي نشرته مجلة أونيون الأميركية الساخرة. فهو يقول إن «الجهود المضنية التي تبذل من أجل حل الصراع الدامي الفلسطيني الإسرائيلي، قد نجحت مؤخرا في إقناع الطرفين بالعودة للمحادثات. وقد تقرر أن تتناول المحادثات القضايا الصغيرة أولا من أجل بناء الثقة، ومن ثم فإن اللقاء الأول سوف يتناول حالة الطقس». والهدف كما قالت المجلة، هو إجراء «حوار مبدئي مفتوح، حول نوعية الطقس الذي يمكن أن يحقق مصالح الطرفين». وأضافت المجلة أنه من المهم للغاية أن يلتقي الطرفان ويتفقا رغم كل خلافاتهما، على أن الطقس فعلا ينذر بسقوط الأمطار، أو سيكون مشمسا، وأن حالة المرور كانت بالأمس كابوسا على الجميع! ورغم طرافة ما جاء في المجلة، إلا أنه في الواقع شديد الجدية من وجهة نظري. ففي ظل الوضع الراهن والواقع على الأرض، فإن أية مفاوضات إسرائيلية فلسطينية هي في الحقيقة مفاوضات من أجل إجراء المفاوضات، لا من أجل التوصل إلى شيء محدد. فإسرائيل تسعى على مرأى ومسمع من العالم كله، لفرض الواقع الذي تريده على الأرض. فهي تمضي بكل قوتها في الاستيطان في الضفة الغربية، بل والأهم في القدسالشرقية، على نحو يغلق الباب نهائيا أمام أية تسوية سياسية تنتهي بإقامة دولة فلسطينية على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية. والحقيقة أن ما تفعله إسرائيل في هذا الشأن ليس جديدا، وإنما هو سياسة استمرت عقودا طويلة، وهدفها أن تلتهم الأرض كلها. والطريقة التى يتم بها بناء تلك المستوطنات ليست عشوائية، وانما هي مدروسة تماما وتقوم وفق خطة بالغة الدقة، بحيث يصبح من المستحيل عمليا في المستقبل تفكيكها أو التخلص منها. ويزداد الأمر تعقيدا بدرجة أكبر، ليس فقط بسبب تطرف المستوطنين، وانما بسبب الشبكة العالمية للمصالح المالية والعسكرية والأيديولوجية الضخمة والمعقدة، التي صارت مرتبطة بالاستيطان وتدعمه وتحميه. والفجوة صارت واضحة تماما بين الإجماع الدولي الواضح الذي صار يدعو لحل الدولتين، وبين الموقف الإسرائيلي الذي يرفض ذلك الحل، ويسعى لاستمرار حالة «اللاحل» إلى أن يتم ابتلاع الأرض بأكملها. والحقيقة أن إدارة أوباما بدأت حكمها بداية صحيحة، حين تحدثت علنا عن عدم شرعية الاستيطان، لكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك الموقف وقبلت الوقف المؤقت للاستيطان. ولم يعل صوتها بخصوص الاستيطان في القدسالشرقية. وهناك أسباب متعددة للتحول في الموقف الأميركي. فعامل التوقيت كان حاسما بالنسبة لإدارة أوباما. فبمجرد أن بدأت شعبية الرئيس الأميركي في الانحسار، صار من الأصعب عليه ممارسة ضغوط على إسرائيل أو حتى إعطاء الأولوية لتلك القضية، لأن الرئيس صار عليه أن يعطي كل وقته وتركيزه لتحقيق إنجاز داخلي معقول، خصوصا في موضوع الرعاية الصحية. وكان لزاما أن يتم هذا الإنجاز قبل بدء الاستعدادات لخوض الانتخابات التشريعية، التي ستجرى في نوفمبر القادم، وهي الانتخابات التي يخوضها كل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ. والرئيس لم يكن على استعداد عبر ضغطه على إسرائيل، لاستدعاء أي من أعضاء الكونغرس الديمقراطيين، الذين يحتاجهم بشدة لتحقيق إنجاز على صعيد الرعاية الصحية. لكن لعل الأهم من هذا في الواقع هو تردي الوضع العربي. فإذا كان الموقف العربي من قضية فلسطين بالغ الضعف والانقسام، الأمر الذي لا يكلف أميركا كثيرا تجاهله فما الذي يدفع رئيسا براغماتيا كأوباما لدفع تكلفة سياسية حاليا، بشأن قضية يمكنها الانتظار إلى وقت آخر، بعد أن يكون قد ضمن لحزبه الاحتفاظ بمقاعد الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، ويحقق لنفسه ما يمكنه من إعادة انتخابه أيضا؟! وتلك في الواقع هي الوصفة السحرية التي كانت تعرفها إسرائيل جيدا وانتظرتها بصبر. فهي انتظرت حتى انخفضت شعبية أوباما، ثم بدأت تضغط، بل وتعلن بوضوح وصلف عن موقفها الحقيقي بشأن الاستيطان وغيره. وأكثر ما تخشاه إسرائيل هو الضغط الدولي لإجبارها على الدخول في مفاوضات جادة مع الفلسطينيين، وهي المفاوضات التي لا يمكن أن تكون جادة بينما وتيرة الاستيطان تسير على النحو الجاري الآن. ومن هنا، وذرا للرماد في العيون، فإن إسرائيل التي تخشى الضغط الدولي، تسعى اليوم بكل قوتها لإجراء المفاوضات مع الفلسطينيين ولكن بشكل ثنائي. وهي في ذلك لا تسعى فقط للالتفاف حول الرباعية الدولية، وإنما للالتفاف حتى حول المبعوث الأميركي جورج ميتشل نفسه. بعبارة أخرى، تريد إسرائيل مفاوضات تستفرد فيها بالفلسطينيين، وتقل فيها إمكانية الضغط الدولي، حتى تكون المفاوضات مجرد تمثيلية مستمرة حلقاتها حتى يتم ابتلاع الأرض. معنى ذلك أن العام الحالي قد يشهد فعليا نهاية أي أمل واقعي في تحقيق حل الدولتين. والكثيرون حول العالم يرون أن إسرائيل بإغلاقها الباب أمام قيام الدولة الفلسطينية، فإنها بذلك تدفع بنفسها نحو الهاوية، ذلك أن معنى إغلاق هذا الباب هو أن الحل الوحيد المطروح هو الدولة الواحدة، التي ستكون في الواقع دولة أبارتيد لن يتحملها الضمير العالمي. ومن ثم تضطر إسرائيل بعد فترة لإعطاء سكانها العرب حقوقا متساوية، وهو ما سيعني وفق التوازن السكاني، نهاية دولة إسرائيل أصلا كمشروع صهيوني ودولة يهودية. لكن إسرائيل تراهن على أمر آخر تماما. صحيح أنها تسعى لابتلاع الأرض كلها وإقامة إسرائيل الكبرى، إلا أنها لن تسمح بحقوق متساوية للفلسطينيين، الأمر الذي يستحيل تحقيقه دون طردهم أصلا. بعبارة أخرى، السؤال الرئيسي والمحوري في المرحلة المقبلة، لا علاقة له بمفاوضات هنا أو هناك، وإنما يتعلق بما إذا كانت إسرائيل قادرة فعلا على طرد الفلسطينيين، وطبيعة المنطقة، بل وخريطة دولها إذا ما تحقق لإسرائيل ما تريد؟! * نقلا عن جريدة البيان الاماراتية