سألني أحد الحضور في اللقاء الذي عقده لي معرض الشارقة للكتاب عن علاقتي بأديبنا الأكبر نجيب محفوظ, الذي تحل الذكري المئوية لميلاده في العام المقبل, فقلت هي علاقة ممتدة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة وتاريخها موضوع كتاب يتضمن الكثير مما لم يحن الوقت للبوح به بعد. وقلت لسائلي: سأحاول مع ذلك أن أوجز لك علاقتي بمحفوظ في ثلاث محطات فاصلة هي التي شكلت تلك العلاقة التي وصفها مقدم الندوة بأنها واحدة من أبرز العلاقات الإنسانية التي عرفها تاريخنا الأدبي الحديث. لقد شرفت بمقابلة أديبنا الأكبر لأول مرة في مكتب أبو المسرح العربي توفيق الحكيم, في جريدة الأهرام, حيث كانت تربطني بالحكيم علاقة وثيقة, لكن المحطة الأولى لعلاقتي بنجيب محفوظ والتي نقلتها من علاقة ود عادية, إلي ما يشبه العلاقة الخاصة القائمة على امتناني ككاتب شاب كان لايزال في ذلك الوقت في مقتبل حياته, كانت حين وصلتني البروفات الأخيرة لأولى مجموعاتي القصصية الرجل الذي عادت إليه ذاكرته في غلافها الأنيق, فقررت إهداءها للأستاذ نجيب بكلمة قلت فيها: إن المجموعة حين تصدر سيتم إهداؤها للكثيرين, لكن هذه نسخة فريدة, لذا رأيت إهداءها للأديب الفريد نجيب محفوظ. وبعد أيام قليلة فوجئت على مكتبي بنفس المظروف الذي حوى المخطوط وقد رده إلي محفوظ ثانية, فخشيت أن يكون الأديب الكبير قد استهجن أن تهدى إليه بروفة كتاب لم يصدر بعد, لكني وجدت أنه صدرها لي بكلمات شكر رقيقة قال فيها إنه استمتع بقراءتها, وإنه لذلك سمح لنفسه بأن يبدي عليها بعض الملاحظات التي أوضح أنه كتبها بالقلم الرصاص حتى يكون بإمكاني إن لم تعجبني أن أمحوها بالأستيكة, علي حد قوله. وقد عمني وأنا أقرأ هذه الكلمات وأسارع بالاطلاع على ملاحظات الكاتب الكبير على صفحات الكتاب شعور بالامتنان الهائل لهذا الإنسان الكبير الذي لم أكن أتصور أنه سيعبأ بقراءة مسودة عمل أول لكاتب شاب, فإذا به يراجع النص بنفسه ويبدي عليه ملاحظات غاية في الأهمية. كانت تلك هي المحطة الأولى في علاقتي بنجيب محفوظ, وقد تواصلت عبر السنوات التالية فكان يشرفني بإهداء كتبه لي وكنت أحرص دائما علي إهدائه النسخة الأولى من كتبي, وكنا نتحاور في كل منها, وقد انتقلت لقاءاتنا من مكتب توفيق الحكيم إلى مواعيد محددة في لقاءات الأستاذ نجيب الأسبوعية. أما المحطة الثانية التي نقلت العلاقة إلى مرتبة ثانية أكثر خصوصية فكانت حين شرفني باختياري ممثلا شخصيا له في احتفالات نوبل عام 1988, فكان لي شرف إلقاء خطابه الشهير في تلك المناسبة, وهذه المحطة في حد ذاتها جديرة بكتاب كامل أحتفظ بمسودته التي تتعرض لملابسات الموضوع ومختلف تفاصيله التي مازالت بها جوانب لم تنشر بعد, لكن وثائقها قائمة تنطق بما لا يعرفه أحد. وتأتي المحطة الثالثة التي توجت علاقتي بنجيب محفوظ حين وقعت محاولة اغتياله الآثمة في نوفمبر 1994, والتي أفقدته القدرة على الكتابة لفترة طويلة, فطلب محفوظ من الأستاذ إبراهيم نافع, رئيس تحرير الأهرام، في ذلك الوقت, أن يتحول مقاله الأسبوعي في الجريدة إلى حوار اختار أن أكون أنا الذي أجريه معه, وإذا كنت أقول إن تلك المحطة هي التي توجت علاقتي بأديبنا الأكبر, فذلك لأنها قربتني منه بشكل أكثر من أي وقت سابق,. واقتضى ذلك أن ألتقي بالأستاذ بشكل منتظم, فكان يفرغ لي مساء السبت من كل أسبوع ألتقي به في جلسة ثنائية لا يشاركنا فيها إلا جهاز التسجيل الذي كان وسيلتي في الالتزام بنص كلمات الأستاذ في مختلف الموضوعات التي كنت أطرحها عليه من أسبوع لأسبوع. وهكذا تجمع لدي على مدى 21 عاما وحتى رحيل محفوظ عام 2006 ما يقرب من 500 ساعة مسجلة بصوت الأديب الكبير تحوي ما قمت بنشره في حينه لكن بها أيضا ما لم يكن مخصصا للنشر في ذلك الوقت, فقد كان الأستاذ ينطلق في حديثه بلا عوائق ولا حواجز, وكأنه كان يعلم أن تلك ستكون كلماته الأخيرة, فأراد أن يضمنها شهادته للتاريخ في الأدب والثقافة والسياسة والتاريخ, وغير ذلك من الموضوعات العامة والخاصة. وقلت لسائلي بمعرض الشارقة للكتاب: ذلك هو الكنز الحقيقي الذي تركه لي أديب الرواية العربية الأكبر الحائز على أرفع الجوائز الدولية نجيب محفوظ, والذي لم يحن وقت فتحه بعد, فقد حكم على طوال السنوات الأربع الأخيرة منذ رحيله عن عالمنا, ألا أتمكن من إدارتها في جهاز التسجيل, فما أن كنت أستمع إلى نبرات صوت ذلك الإنسان العظيم الذي أحببته كما يحب الابن والده ومعلمه ومثله الأعلى وصديقه ورفيقه على مدى السنوات, حتى كان ذلك التاريخ كله يعود فجأة إلى الحياة, فأشعر مرة أخرى بالفقد الهائل الذي شعرت به وقت وفاته وتتجدد الأحزان التي نظن خطأ أن الزمن يمحيها. نقلاً عن صحيفة الأهرام المصرية