يظل الدستور هو منشىء السلطات وهو الحكم بين هذه السلطات، كما أن هذا الدستور هو من يحدد شكل الدولة والعلاقة بين أركانها، ويرسم هويتها وإتجاهاتها، كما أن الدستور هو الضامن الأول لحالة الإستقرار والسلم الإجتماعى التى تتطلع إليها الشعوب خاصة خلال مراحلها الإنتقالية التى تعقب التخلص من إحتلال أجنبى . وما يصحب ذلك من السعى نحو بناء نظام حكم جديد، أو تلك التى تأتى بعد نجاح ثورة شعبية فى هدم النظام القديم وإحداث تغييرات جذرية فى شكل الدولة ومكوناتها .
لم أكن أتمنى بأى حال من الأحوال تكرار الحديث مجدداً عن أهمية الدستور والدور المحورى الذى يلعبه حول تحقيق الفصل التام بين سلطات الدولة ووضع الأساس لنظام الحكم الديمقراطى الذى نتطلع للوصول إليه..
غير أن ما يحدث الأن داخل أروقة الجمعية التأسيسية من عملية سلق للدستور، وكروتة لأبوابه لأى سبب من الأسباب هى ما دفعنى للعودة ثانيةً إلى التنبيه لخطورة النتائج التى سوف تسفر عنها تلك الممارسات التى تبعث الشكوك حول نوايا تيار الإسلام السياسى – المسيطر داخل الجمعية – ومحاولاته لخروج الدستور بصيغة نهائية تتوافق مع ما يحمله من أيدولوجية وتصورات لشكل الدولة ونظام حكمها لأكثر من مائة عام قادمة .
لا تتمحور المشكلة فى ذلك حول حرص تيار بعينه على الإستئثار بكتابة الدستور الذى يتطلب التوافق عليه بين جميع فئات وأطياف المجتمع المختلفة أو حول تغيير هوية الدولة وخلق حالة من الإنقسام بين مكونات المجتمع فقط.. بل تكمن معضلة تعمد الإسراع فى كتابة الدستور أيضاً فى الأتى :
1-أن تصاب مواد الدستور بالعوار وخاصة تلك المتعلقة بالحريات – التى أعلنت لجنة الحريات داخل الجمعية مؤخراً الإنتهاء من الباب المخصص لها – وهى ما تتضمن حرية الرأى والتعبير والمرأة والحريات الشخصية بما فى ذلك حرية الإعتقاد والمأكل والملبس والإنتقال.. إلخ، بحيث لا يخرج وفقا للإتفاقيات والمواثيق الدولية الموقعة عليها مصر والخاصة بالحريات، وإنما تخرج مرة أخرى "وفقا لأحكام القانون " تلك الإضافة التى أعطت للنظام الحاكم من قبل إمكانية رسم الأطر العامة للحريات فى مصر وتوظيفها بما يتوافق مع رؤيته ويحقق مصالحه .
2-أن يتم الإبقاء على مجلس الشورى وما ينتج عن ذلك من إرهاق سياسى ومادى للمجتمع، كذلك الإبقاء على نسبة العمال والفلاحين داخل مجلس الشعب التى أعتقد أن ممثلى التيار الإسلامى قد أعلنوا فى غير موضع أنهم لا يجدوا غضاضة فى الإبقاء عليها .
3-أن يصبح نظام الحكم فى الدستور الجديد برلمانياً وهو النظام الذى يميل إليه الإسلاميون إلى حد كبير، وهو ما لا يتناسب – فى تقديرى – مع الحياة السياسية المصرية بالنظر إلى عدم نجاح الكيانات الحزبية الموجودة على الساحة السياسية فى الوقت الحالى بعد فى التبلور فى شكل أحزاب كبيرة تمتلك الكوادر المؤهلة وتستطيع المنافسة كما يحدث فى الديمقراطيات الراسخة سوى حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين .
4-أن تخرج الصيغة النهائية لكى تضفى مزيداً من الإستقطاب وتزيد من حالة الصراع السياسى والمجتمعى وخاصة فيما يتعلق برغبة التيار السلفى الملحة فى تغيير صيغة المادة الثانية طبقاً لمعتقدات متشددة إلى حد بعيد، ورغبة أطراف أخرى فى عدم إضافة أية مواد إنتقالية من ضمنها تلك التى تسمح للرئيس مرسى بإستكمال دورته الرئاسية الحالية، وتحول دون إقامة إنتخابات رئاسية جديدة على غرار الإنتخابات البرلمانية التى سوف يتم عقدها وفقا لقواعد الدستور الجديدة .
من هنا يتضح أنه ربما يصبح قصوراً فى الرؤية إدراج النقاط السابقة ضمن المخاوف التى تسيطر حالياً على المجتمع حول الدستور الجديد، بل يجب الحديث عنها فى المقام الأول على أنها جزء من الواقع الحاصل الأن والذى أفصحت عنه مؤخراً بعض الإرهاصات التى جاءت فى صورة تصعيد متبادل بين عدة أطراف داخل الجمعية التأسيسية.
وهو ما يمكن أن يؤدى إلى تفجير الأوضاع فى أى وقت، ومعه قد تصبح الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور هى السبب الرئيسى فى الرجوع بالبلاد إلى المربع صفر بدلاً من أن تكون – كما كان مفترضاً – هى حجر الأساس فى نظام مدنى ديمقراطى حديث .