ليس أكثر أهمية في مصر الآن من موضوع إقامة العدل بواسطة السلطة الانتقالية، المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته برئاسة عصام شرف، خلال مرحلة الانتقال المأمول إلى الحكم الديمقراطي الصالح في مصر. فمن ناحية، مازالت مصر تعاني من حالة صارخة من إجهاض العدل على أيدي حكم الفساد والاستبداد الذي قامت ثورة شعب مصر الفل لإسقاطه، ولم تمكِّن السلطة الانتقالية الشعب من إسقاطه حتى الآن، ومن علامات امتناع السلطة الانتقالية عن إسقاط نظام الحكم التسلطي المخلوع أن تفاقم الظلم واطرد غياب العدل، بل استمرأت السلطة الانتقالية اتباع إحدى نقائص نظام الطاغية المخلوع بالإصرار على حرمان المواطنين من قاضيهم الطبيعي، وهو مبدأ اصيل لإقامة العدل. ويتعين ألا ننسى أن إقامة العدل واحدة من الغايات النهائية الثلاث لثورة شعب مصر العظيمة: الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. ومن ناحية ثالثة، يخشى أن تطبع الأخطاء التي ترتكبها السلطة الانتقالية في مضمار إقامة العدل، الذهنيات والإجراءات التي ستقوم على وضع البنى القانونية والمؤسسية لنيل غايات الثورة مما قد يفضي إلى تهديد غاية العدل في مصر الآتية. لكل ذلك كتبت في هذا الموقع في شهر إبريل الماضي، تحت عنوان "العدالة الانتقالية العرجاء" شاكيا من أن السلطة الانتقالية في مصر تكيل بمكيالين في محاولة إقامة العدل. من ناحية تُرهب المدنيين بإحالتهم للقضاء العسكري بالمخالفة الصريحة للإعلان الدستوري للمجلس نفسه بينما تدلل أنذال النظام الذي قامت ثورة شعب مصر الفل لإسقاطه مصممة على محاكمتهم أمام محاكم مدنية تحتمل الإبطاء وتتعرض لإجهاض العدالة من خلال ابتسار التكييف القانوني للاتهامات ونقص الأدلة المقدمة ما قد ينتهي بإبرائهم أو إفلاتهم من العقاب المتناسب مع جرائمهم الدنيئة. ولكن السلطة الانتقالية ظلت تكيل بالمكيالين نفسهما حتى اضطررت للكتابة مرة أخرى تحت عنوان "العدالة الانتقالية العرجاء، مرة أخرى"من منطلق "وإن عدتم عدنا"، في شهر مايو الفائت. كما فرض على سلوك السلطة الانتقالية أن أشير إلى هذه النقيصة في مقالات عديدة أخرى. وكنت أتمنى ألا أعود لهذا الموضوع مرة أخرى أبدا. إلا أن السلطة الانتقالية، هداها الله، تصر على ألا تعود عن هذه الممارسة المعيبة. وكان لا بد أن نعود نحن، محتجين، ومتمنين أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي نثير فيها الأمر. ولعلنا نتفاءل متمنين بأن نكتب قريبا مهنئين السلطة الانتقالية بإعلانها القاطع بعدم إحالة أي مدنيين إلى محاكمة عسكرية أبدا وبالاحترام القاطع لحقوق التظاهر والاعتصام السلميين والرأي والتعبير، وتنفيذ التعهدين تنفيذا صارما حتى نهاية المرحلة الانتقالية إلى الحكم الديمقراطي الصالح، من منطلق الشرف العسكري الذي يفرض احترام الإعلان الدستوري المجلس الأعلى للقوات المسلحة والذي يقضي بضمان جميع هذه الحقوق. إلا أن السلطة الانتقالية تبدو مصممة على استفزاز الشعب، وعقابه على الثورة، لا سيما عقاب الشباب النشط عقابا فظا بالعنف والأذي البالغين حتى نكاد نستعيد أيام بائس الذكر "حمزة البسيوني" مدير السجن الحربي الأسبق بعودة التعذيب في السجن الحربي حيث طالعتنا الأخبار بطلب محامين "إحالة اثنين من المعتقلين على ذمة أحداث فض اعتصام التحرير إلى الطب الشرعي بعد إصابة أحدهما بانزلاق غضروفي والآخر باشتباه في شلل رباعي قالت أنه جراء التعذيب في السجن الحربي". عار ما بعده عار أن يثور حتى مجرد شك في أن ترتكب مثل هذه الجرائم الشنعاء في مصر بعد ثورة الفل. وليعلم من يمارسون العنف في فض الاعتصامات أو التعذيب لمعتقلين أن هذه جرائم لا تسقط بالتقادم، وليس لهم منها عاصم، وإن طال الأجل، وليتعظوا من تاريخ العسكر في أمركا اللاتينية الذين نالوا عقابهم على جرائم مماثلة بعد سنوات طوال. وقد أثار كل هذه اللواعج خبر تحويل زهرة مصر البديعة أسماء محفوظ، إلى القضاء العسكري بتهمة الإساءة إلى المجلس العسكري. ولمن لا يعلم، فإن أسماء، ذات العشرين ربيعا هي صاحبة الدعوة لاعتصام 25 يناير في ميدان التحرير. وهي من ثم يتعين أن تكرَّم من السلطة الانتقالية التي تدعي حماية الثورة، لا أن تهان. وأيا كانت جريرة أسماء، وإن شطت، فتبقى في حدود التعبير عن الرأي. وننتظر من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين هم في مقام جدودها أن يتعاملوا مع شابة في عمر الزهور برفق الجدود بالأبناء وتفهم فورة الشباب الذي لا بد خبروه يوما. وأيا كان خطأ أسماء، إن كانت قد أخطأت، فيبقى في حدود تهم "الرأي والضمير" وموضعها الأصولي أمام القاضي الطبيعي مع كل الاحترام الواجب للمتهم وجيع ضمانات المحاكمة النزيهة والعادلة. ولا بد هنا من القول بأن مصر لن تبرأ من ذهنية الحكم التسلطي الساقط إن استمرت ذهنية تقديس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم وتجريم العيب في ذات أعضائه او رئيسه، فهكذا يتخلّق الطغاة، ولم يسقط شعب مصر واحدا ليحل محله كُثر. في النهاية كلهم بشر، وليس أحد منهم معصوم. ولسنا مع إساءة الأدب، ولكن النقد حق على كل من يتصدى للمنصب العام، كما الموت حق على كل فان. إلا أن العار الجلل الذي يحيق بجميع المصريين، سلطة وشعبا، ويسيء إساءة بالغة إلى سمعة مصر في الإقليم والعالم، هو أن تحال أسماء للقضاء العسكري في تهمة رأي بينما يحاكم الطاغية المخلوع، ووزير داخليته الجلاد السفاح، وبطانتهما المتهمين بقتل وإصابة الآلاف من خيرة شباب مصر وبتخريب البلد ونهبها لعقود أمام القضاء الطبيعي البطئ والذي قد ينتهي إلى مجرد "قرصة أذن".