تعيش مصر منذ إسقاط الطاغية مبارك في اليوم المشهود 11-02-2011، عصرا غير مسبوق من تنسم الحرية والتطلع لمسقبل يضمن نيل غايات ثورة مصر شعب الفل في تمتع جميع أهل مصر بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية. هذا واقع سعيد، لا ينكره إلا جاحد أو مضلِّل، نحمله فضلا أبديا لثورة شعب مصر الفل التي بدأها بعض من خيرة شبابها في 25 يناير 2011، ونشكر للقوات المسلحة المصرية دورها غير المنكور في مساندة ثورة الشعب وحمايتها من بعض من أخطر مكائد الحكم التسلطي الذي قامت الثورة لإسقاطه، من خلال التمسك بالشرف العسكري لجيش الشعب. ولكن التمتع بالحرية في مصر يبقي مجرد تنسم، والوصول لمصر المستقبل التي ينعم أهلها جميعا بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية يبقى فقط تطلعا دون دياره أهوال، لو استمر حكم المرحلة الانتقالية، بواسطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته، على حاله الراهن. فلن ينال أهل مصر كامل التمتع بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية إلا بإزالة بنى الاستبداد والفساد الخبيثة التي كرسها نظام الحكم التسلطي الذي قامت ثورة شعب مصر الفل لإسقاطه، وإقامة بنى قانونية وسياسية جديدة، نبيلة وخيرة تضمن نيل غايات الثورة. غير أن السلطة الانتقالية ما زالت تتسم ببعض سمات حكم الرئيس المخلوع، ولا تسعى لإقامة البنى الجديدة المطلوبة بالفعل الثوري، الجذري في التفكير والتدبير، وفي الزمن الثوري، اليقظ والسريع الإيقاع. وليس هذا بالأمر الغريب. فأسوأ تركات الحكم التسلطي الذي يستبد بمجتمع طويلا أن يطبع الناس، خاصة من شاركوا فيه طويلا، بذهنيات تسلطية لا تنقضي بسهولة. كما كان الحال في النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه، يحيل المجلس مشروعات قوانينه إلى لجان يضم لعضويتها من يصطفي وتتداول فيما بينها في حجر مغلقة، وقد يتسرب بعض من اجتماعاتها، أو نتائج مداولاتها، إلى وسائل الإعلام. وليس في هذا من المشاركة الشعبية شيئ، لو يعلمون. هكذا، لو يتذكر القارئ، مع الفارق بدون شك، أدخلت الإساءات الدستورية في العام 2007، من خلال “حوار مجتمعي” شكلي وظاهري، حول التعديلات الدستورية، يعترف لنا بعض من شاركوا فيه الآن، وفقط الآن (انظر مقالات عبد المنعم سعيد في الأهرام مؤخرا تحت عنوان :”لماذا فشلنا؟”) بأنه كان مهزلة مفضوحة حتى لمن سُمح لهم بالمشاركة فيه. في البداية، انتزع المجلس لنفسه بالإعلان الدستوري، الذي لم تخضع الغالبية العظمى من مواده لأي نقاش مجتمعي، ناهيك عن الاستفتاء الشعبي عليه، بجل سلطات رئيس الدولة المطلقة في الدستور المشوه الذي اسقطته الثورة، مضيفا إليها سلطة التشريع من طرف واحد من دون أي استشارة شعبية، ومحصِّنا نفسه من أي مساءلة، بحيث لم يترك للشعب من سبيل إلا المساءلة النهائية من خلال الاحتجاج الجماهيري أو الثورة الشعبية. وهكذا، كما كان الحال في نظام الرئيس المخلوع، فإن السلطة تبقى في يد المجلس، كاملة ومطلقة، بحيث يظهر أن الحكومة ، على وجه الخصوص، ليست إلا سكرتارية تنفيذية للمجلس يعينها ويعفيها، وتبقى أثناء وجودها مغلولة اليد، خاصة إن شردت فيما وراء خطوط حمراء يحددها المجلس وحده، ولو شردت الحكومة اجتهادا سعيا وراء الصالح العام. واستشعارا لهذه السلطة المطلقة، يخاطب كل عضو من أعضاء المجلس الشعب وكأنه الحق الذي لا يأتيه باطل، وكأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، بينما ليس من بشر معصوم بعد خاتم المرسلين. فكأن الشعب أسقط متسلطا أوحد ليحل محله العديد! وامتدادا للمنطق ذاته، يظهر أحيانا أن المجلس يتبنى أسلوب المخلوع المعروف بعبارة “خليهم يتسلوا!”. بمعنى أن تسمح السلطة الانتقالية بالتعبير عن النقد بينما تجري الأمور في أعنتها وفق إرادة السلطة الانتقالية دونما راد أو رادع. وكأن المجلس يتأسى بالمخلوع حين كان يتفاخر بأن لديه “دكتوراه في العناد”. وكأن السلطة الانتقالية ربما تسمع ولكن لا تصغي. وليس أدل على هذا الأسلوب المعاند من التصميم على المسار الذي اقترحته لجنة المجلس للإصلاح الدستوري والسياسي برئاسة المستشار البشري: من انتخاب مجلسي الشعب والشورى، ثم تشكيل لجنة بواسطتهما لصوغ الدستور ثم انتخاب رئيس الدولة، بينما تتراكم القرائن القانونية والإجرائية على فساد هذا التسلسل، خصوصا في ظل القوانين التي أصدرها المجلس، بالأسلوب نفسه، لتنظيم الأحزاب والانتخابات، وحال البلد تحت السلطة الانتقالية. يأتي على رأس هذه القرائن الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا عام 1994 وذهبت فيه إلى عدم جواز وضع دستور جديد بواسطة أعضاء مجلس الشعب. حيث أظهرت المحكمة في حيثيات حكمها أن الدستور ينظم أعمال مجلس الشعب ولا يجوز لمن ينظم الدستور أعماله أن يتولى وضع الدستور، تماما كما ذهب الكاتب، توسلا بالمنطق البسيط، في مقال سابق على هذا الموقع. وقد أكّد على عيوب هذا المسار قانوني الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية اللذان أصدرهما المجلس بمراسيم. أكد الأول على قصر السياسة في مصر الانتقالية فعليا على التيارات الدينية المتشددة، المتمولة وشديدة التنظيم، والتي شجعتها السلطة الانتقالية، إلى حد تقديمها كواجهة لها في أحيان، وعلى كبار المتمولين عداهم. وتجاهل المرسوم الثاني وضع أي قيود على الإنفاق الانتخابي، مكرسا سطوة رأس المال على العملية الانتخابية. ومن الناحية الإجرائية، فإن إجراء الانتخابات التشريعية قبل إحلال الأمن في ربوع مصر كافة، بما يمكِّن من إنهاء العمل بحالة الطوارئ، قد يعني مذابح نكراء بسبب إمكان توظيف بعض التيارات الدينية المتشددة لأشكال من العنف المادي والمعنوي، بتوظيف الشعارات الدينية كما حدث في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، بالإضافة إلى استغلال كبار الأغنياء لا سيما من فلول حزب الحاكم المخلوع للبلطجية- الذين عجزت السلطة الانتقالية ووزارة الداخلية في حكومة المجلس، والتي شوهها النظام الساقط ولم تبرأ من عاهات إفساده لها بعد، عن إعقالهم حتى الآن،-في التأثير على الانتخابات. وقد بدأت بعض التيارات الإسلامية، المستقوية حديثا إلى حد الاستفزاز، شن حملة من العنف المعنوي بالهجوم الشديد، إلى حد التخوين، على من يبدي رأيا مخالفا لمسار لجنة المستشار البشري والمجلس، ما يثير الشكوك في نوايا هذه التيارات من التحكم في محتوى الدستور الجديد حال حصولها على أغلبية في انتخابات مشوبة بأكثر من وجه عوار، وأنهم ربما قد يضمرون فعلا أن تكون ممارسة الديمقراطية لمرة واحدة فقط كما يشاع عنهم، وليسوا معروفين بالإفصاح عن النوايا. ولهذا نرى أن الحرص على نيل غايات الثورة في إدارة المرحلة الانتقالية يقتضي وضع الدستور الجديد أولا. في البداية، من خلال حوار شعبي مفتوح واسع وعميق لمناقشة القضايا الرئيسية لمحتوى الدستور، عبر توظيف وسائل الإعلام و تقانات المعلوماتية والاتصال الحديثة؛ ثم عبر تشكيل جمعية تأسيسة تمثل جميع أطياف المجتمع المصري تصوغ مشروعا للدستور، تمهيدا للاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور في مناخ آمن وتام الحرية، وبعد كل ذلك تجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية، وفق ما ينظمه الدستور الجديد. وللحقيقة، فإن رئيس حكومة المجلس يبدي وجها للسلطة الانتقالية غاية في الدماثة واللطف، ولو لم يبد ممسكا بزمام الأمور. وللحقيقة أيضا، فإن السلطة الانتقالية، قد أبدت استعدادا محمودا لتصحيح مسارها وتعديل قراراتها، ولكن أساسا استجابة للتظاهرات الضخمة، على الإنترنت أو في الشوارع والميادين، كما أسر بعض أعضاء المجلس لجريدة الواشنطن بوست مؤخرا. إلا أن هذا النوع من الحد الأقصى للمساءلة، من خلال أشكال الفعل الاحتجاجي الضخم، يتعارض مع طلب السلطة الانتقالية، الدائم والمبرر، بالحفاظ على الأمن والاستقرار المفتقدين في مصر حاليا. ومن ثم، فإن ضمان مصر الحرية والعدل يتطلب أن تسمع السلطة الانتقالية أكثر. والأهم أن تصغي وتنصت. وحبذا لو استجابت.