الخنساء لمن لا يعرفها هي تماضر بنت عمرو الشريد السلمية، كانت شاعرة عربية أسلمت، وفي وقت ولاية عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان لها أربعة أولاد دفعت بهم إلى الحرب، وقالت لهم مقولتها الشهيرة: "يا بَنيَّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، وتعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين". وخاض أبناؤها الحرب واستشهدوا جميعا في موقعة القادسية، وعندما بلغها خبر وفاتهم، لم تجزع ولم تبكِ، ولكنها صبرت وقالت قولتها المشهورة أيضاً: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".. هذه هي الخنساء التي دفعت بأربعة رجال هم أبناؤها لمحاربة الكفار، وأكررها هنا أنها دفعتهم وهم رجال ولمحاربة الكفار، وحمدت الله على استشهادهم، في صبر وإيمان عميق. أما أن نرى الآن في ميدان رابعة العدوية امرأة تقود أمامها ثلاثة أطفال، فتاتين وصبي حماهم الله، أصغرهم في الخامسة وأكبرهم في السابعة، يرتدون ملابس بيضاء ويحملون أكفانهم على أكفِّهم، ويسيرون في مشية جنائزية المفترض بها أنها رمزية لنيتهم ورغبتهم على الاستشهاد، فهذا والله عجب العجاب! الأطفال أكبرهم في السابعة وأصغرهم في الخامسة، لم يصلوا لسن التكليف بعد، هذا لو فرضنا أنهم سوف يدخلون حربا مثل أبناء الخنساء لمحاربة الكفار وينالوا الشهادة، أو حتى حربا ضد الصهاينة ويحرروا أرضا مسلمة مقدسة.. أما أن يكونوا أطفالا في هذه السن الصغيرة ويُدفعوا دفعا للموت وليس للشهادة، فهذه ليست شهادة، فالأطفال لم يُخلقوا لندفع بهم إلى الهلاك بأيدينا ثم نطلق عليهم شهداء.. وستقول لي أن المشهد رمزي.. سأخبرك أنه بعيد عن المشهد وجود الأطفال هناك من الأساس دفعا بهم إلى الهلاك.. فهناك عنف وهناك قتل يحدث وقد يبدأ في أي وقت فما معنى أن تأخذ معك طفلا إلى منطقة مهددة بالاشتباكات؟ حتى لو اعتقدت أنك الطرف الصواب وأن من سيهجم عليك هو المخطئ.. فلماذا تأخذ طفلا معك تعرف أنك تخاطر وتقامر بحياته؟؟ علاوة على هذا الفكرة الرهيبة التي نضعها في رأس الأطفال، وهي أنهم ذاهبون لساحة قتال لنيل الشهادة؛ لمحاربتهم أبناء وطنهم المسلمون مثلهم تماما، وكما لو كانوا ذاهبين في غزوة من الغزوات في صدر الإسلام؛ لمحاربة الكفار، وسوف يخرجون منها إما بالنصر أو الشهادة، وكما لو كان باقي المصريين الذين يشهدون ألا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا سمح الله "كفارا".. نزيد على ذلك التأثير النفسي العميق على طفل لا يعي لم يتجاوز الخامسة أو السابعة وتضعه أمه التي انعدمت من قلبها الرحمة، في مثل هذا الموقف بأن يحمل كفنا ويؤهل بأنه مشروع شهيد؟؟ هل وصل بنا الحد إلى هذه القسوة؟!! بعد أن قاطع الأب ابنه، وقتل الأخ أخاه، في الميادين، واستعدت علينا رؤؤس الفتنة الدول الأجنبية، حتى تتدخل أمريكا والدول الغربية في شؤوننا؛ بسبب أفكار مسمومة تدسها فئة تحسب نفسها تدافع عن الإسلام والمسلمين، وتستحوذ على عقول الشباب والبسطاء من الناس باسم الدين، بإيهامهم بمشروع إسلامي لم نرَ منه أي بادرة إسلامية وتتخذ من الدين تجارة لا يرضاها الله ورسوله.. هل وصلت القسوة إلى أن نرى أمّا على شاشات التلفاز وهي تسوق أطفالها بقمة القسوة إلى ميدان رابعة العدوية وهم يحملون أكفانهم، وهي في اعتقادها أنها تدفع بهم إلى الشهادة في ساحة القتال وأنهم ذاهبون إلى الجنة وهم لم يتعدوا السابعة.. هل وصلنا إلى هذا التخلف وانعدام أبسط المشاعر الإنسانية وهي الأمومة؟ فالأم لو طاف بخاطرها سوء يصيب أولادها تفزع وتستعيذ بالله، لو لمح عدو لها مجرد تلميح عن موت فلذة كبدها، فالتصرف الطبيعي أن تستشيط غضباً وأن يسقط قلبها بين قدميها وأن تهاجم هذا الذي لمح لمقتل أطفالها.. فماذا حدث وكيف انعدمت مشاعر الأمومة لدرجة تجعل سيدة تسير فخورا خلف أطفالها يتقدمهم صغيرها وهي تجعلهم يسيرون ويحملون رمز موتهم؟؟ فلا ينتفض قلبها؟ هل وصل بهم الحد إلى تشويهنا وتشويه الإسلام بهذه اللقطات المتخلفة القاسية، والتي إذا حدثت في أي دولة متقدمة تحترم حقوق الأطفال، لأخذت الدولة الأطفال من أمهم بسبب سوء معاملتهم نفسيا واستغلالهم، والزج بهم في مخاطر قد تقضي على حياتهم، وربما تفرض عقوبة على هذه الأم التي تدفع بأبنائها ليكونوا مشاريع شهداء.. إذا كنا وصلنا إلى هذا الحد، فالمفروض أن تقوم الدولة بالوصاية على هؤلاء الأطفال ومحاسبة والدتهم... هذا إذا كانت أمهم حقا مع كل هذه القسوة.. حفظ الله مصر وأبناءها ووقاها من هذا البئر الأسود العميق..