فاجأني برأيه.. بل انهال على رأسي كالصاعقة حينما قال لي: "أيوة لازم تتقطع الطرق ويتولع في كام مؤسسة، ويموت 1000 واحد في ميدان التحرير وميادين أخرى علشان تنصلح حال البلد". فرددت عليه وأنا في دهشة وحيرة وغضب (وكام شعور كده مع بعض) لا يمكن وصفهم.. "يتصلح حال البلد مع حرق وقتل وقطع طرق إزاي؟ سيادتك شارب حاجة! ما هو بيقولوا إن المخدرات بقت مغشوشة اليومين دول". فرد عليّ ووجهه يعبر عن مشاعر "القرف" لما قلت له: "إيش عرّفك إنت بالثورات؟! علشان نغير لازم الشعب يتعب ويموت.. مافيش حلاوة من غير نار، علشان الأجيال القادمة تعيش في استقرار لازم إحنا نموت". فانفجرت في الضحك -فشر البلية ما يُضحك- وقلت له: "وهو لما إحنا نموت هيبقى فيه أصلا أجيال قادمة؟! ولما إنت تحرق هيبقى فيه استقرار وهيبقى أصلا فيه بلد؟!". كان ما سبق حوارا مقتضبا وسريعا ومحزنا مع أحد ركاب الميكروباص الذي أستقلّه يوميا لمدينة نصر حيث مقر عملي، وما أعجب ما تراه في المواصلات! وأكيد كلكم عارفين.. وإن كان من المحزن أن ترى في بلدك طرقا تُقطع، ومؤسسات تحرق، وشباب يُقتل.. ولكن.. من المؤلم والمفجع أن ترى من يبرر لهذا العنف بأنه من أفعال الثورة! وأن أولئك الذي يُدعون بمليشيات "البلاك بلوك" وغيرهم ثوريون -آه والله قالوا عنهم ثوريين- وأن تسمع في بعض وسائل الإعلام و"الكلمنجية" في برامج "المكلمات" المسمّاه بال"توك شو" تبريرا لأعمال العنف، بل وأن ترى غطاء سياسيا من بعض القوى لهم، تلك التي رفضت حتى أن تخرج بيانا رسميا بأنها تدين العنف. تلك القوى التي وضعت يدها في أيدي رموز نظام ثار الشعب لإسقاطه، وبل من عجب العجاب أن رأينا بعضهم -من رموز النظام السابق- يتحدث بأنهم من مفجري الثورة. وهنا نجد الشعب في حيرة من أمره.. مش فاهم حاجة خالص، ويتساءل: هل أعمال الحرق وقطع الطرق والقتل ثورة جديدة مثل التي اندلعت في يناير؟ هل تتشابه تلك الأحداث مع أحداث حرق أقسام الشرطة والفوضى التي حدثت في جمعة الغضب 28 يناير 2011؟ وما سر انتشار أعمال العنف في عدد من المحافظات في وقت واحد وبنفس الأسلوب وبذات الأدوات؟ هل هي غضبة شعبية على حكم الإخوان؟ أم تدبير منظم من البعض الذين لا يرون مصلحتهم في استمرار النظام الحالي؟ هل ما يحدث هذه الأيام في مصر ثورة أم تظاهرات أم مجرد أعمال عنف وبلطجة؟ كذب من يقول إن ثورة 25 يناير 2011 كانت عنيفة أو غير سلمية، وكذب من يقول إن ثوار يناير أحرقوا أقساما للشرطة، فالكل يعرف -وأكثر من يعرف من خرج في تظاهرات 28 يناير جمعة الغضب- أن حرق الأقسام كان في كل المحافظات في وقت واحد وبنفس الأسلوب، وكان فعلا مستنكرا من الثوار، وأنه كان مخططا له ليقوم النظام وعناصره بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، بحجة الدفاع عن مؤسسات الدولة، وإحداث فوضى في البلاد ترهب الشعب، ليقمع ثورته بيده، ويكف عن الخروج عن النظام، خوفا من أن تتدهور الحال الأمنية أكثر من ذلك. ولكن أبى الثوار إلا أن يكملوا ثورتهم، ويتحدون نظاما استباح دماء شعبه من أجل البقاء، وكان مصير رأسه السقوط والسجن، ولا يزال باقي النظام يتهاوى، حين يفضح نفسه في كل عمل خبيث تخريبي بعد الثورة.. من ثم.. فإن المعادلة المنطقية لما يحدث من عنف في مصر الآن مفادها: أنه ما دام المصريون ضد التخريب ويكرهونه، إذن فما يحدث من عنف وقتل وحرق لا يمكن أن يكون ثورة، بل ومن الإجرام أن نصف مرتكبي تلك الحوادث بأنهم ثوار، وعندما يقطع البعض طريقا ويطلقون أعيرة نارية عشوائيا، فلا تنتظر تأييدا جماهيريا لذلك، حتى وإن كان الشعب يكره النظام الحالي. وقد درسنا في العلوم السياسية ما يسمى ب"متلازمة استوكهولم"، وهو مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء له، مثل أن يتعاطف المخطوف مع المُختَطِف. فعندما يحتج البعض بهذا الأسلوب العنيف المسلّح ضد نظام لم يكمل حكمه ستة أشهر، ويطلق البعض على ما يحدث من عنف وحرق وقتل بأنه ثورة، ستجد شعبية ذلك النظام تزيد في قلوب عامة الشعب "متلازمة استوكهلم" ويتعاطفون معه، ويكيلون السب واللعنات لمن يحدث الفوضى في البلاد ضد النظام.. ناهيك بأن مؤيدي النظام الحالي بالأساس، وهم قوة عددية لا يُستهان بها، سينضمون إلى هؤلاء المتعاطفين، ولربما يخرج كل هؤلاء بعنف مضاد، ضد من يطلقون على أنفسهم ثوارا، ليلعنوا الثورة ومن صنعها، ومن فكر فيها.. بل إن الأمر قد ينقلب أكثر من ذلك، فبدلا من أن يتعاطف الناس مع النظام الحالي نتيجة العنف، سنجدهم يترحمون على النظام السابق، وليحدثني كل منكم كم سمع في المواصلات العامة عبارة "فين أيامك يا مبارك!". هذا ما يحدثه العنف وتعاطف مع النظام المرتكب في العنف في حقه، أو الترحم على النظام الذي ثار الشعب لإسقاطه.. الخلاصة.. ما يحدث هو خلاف سياسي، أو خلاف وجودي على السلطة، أرادت بعض المعارضة تضخيمه بإطلاق مصطلح "ثورة" عليه، وصعّده انضمام بعض من تلك المعارضة إلى رموز نظام بائد، الذين قاموا بدورهم بتصعيد الأمور بطريقتهم من خلال أعمال البلطجة والقتل والحرق وقطع الطرق، فنشب في قلوب المصريين -أغلبهم- حالة من الحنق والغضب، فصار بعضهم يتعاطف مع النظام الحالي، فزادت شعبية الرئيس محمد مرسي، وصار البعض الآخر يترحم على مبارك وحكمه، فقلّت شعبية الثورة والثوار.. هكذا يُحدث العنف والحرق وقطع الطرق لحالة الشعب النفسية، فما بالك بما تحدثه تلك البلطجة من انهيار للحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟! فاللهم عليك بمن يخرب مصر، واجعل دماء الشباب لعنة على كل من يتسبب في إراقتها.. واهد اللهم كل من يتعاطف من المخربين.. اللهم آمين..