السلام عليكم.. أنا سيدة متزوجة ولديّ طفلتين، عندما قرأت مشكلة "فوبيا التحرش" شعرت بحاجة للحديث عن الأمر.. فأنا كنت قد مررت -بكل أسف- وأنا في نحو التاسعة من عمري بتجربة تحرش لا تزال تؤثر فيّ حتى الآن، وكانت في مكان عام "طابور العيش"، ووقتها كنت صغيرة فلم أفهم أن ذلك كان تحرشا إلا فيما بعد؛ ولكن ظلّ الحدث في ذاكرتي و"زاد الطين بلة" محاولة تحرش صريحة من أحد أقاربي الموثوق فيهم بعدها بسنوات؛ ولكن كنت قد كبرت، واستطعت الدفاع عن نفسي، وبقيت الآثار السيئة للحادث بداخلي، وكلما أعتقد أنني نسيت الموضوع يحدث ما يذكرني به.. فمثلا اضطررت مرة لركوب ميكروباص مزدحم أنا وصديقتي، وعندما نزلنا وجدتها على وشك البكاء.. فلما سألتها أخبرتني أن أحد الأشخاص قد لمس منطقة حساسة في جسدها عامدا أثناء ركوبه، وأن الخجل والخوف منعاها أن تنطق بكلمة. المشكلة أنني أصبحت مصابة بهذه الفوبيا، ولا أثق في أحد، وأخشى الأماكن المزدحمة.. والمشكلة الأكبر أنني أخاف على بناتي حتى من أقرب المقربين بعد فعلة قريبي المشينة في الماضي، وأخشى أن يحدث يوما ما تخشى ابنتي مصارحتي به مثلما خِفت أنا يوما ما من إخبار أحد؛ حتى أصبحت منغلقة، وأخشى عليهن من الاختلاط بأحد؛ رغم أنني أعلم أن ذلك ليس حلا، وأنهم لا بد أن يخرجوا للدراسة، والتعامل مع المجتمع يوما ما، وليس لديّ سوى اللجوء لله سبحانه وتعالى والدعاء بأن يحفظهما؛ ولكن سؤالي: هل ترون ما وصلنا إليه؟
safi
سيدتي العزيزة والفاضلة.. لا أعلم إذا كنت سأستطيع أن أصف لك مدى تأثير رسالتك علي، فقد أيقظت ذكريات أليمة أسأل الله تعالى ألا تزور أحدا أبدا، وإن كنت أحسب نفسي من أوفر الناس أو تحديدا البنات حظا.. ودعيني أسرد عليك قصتي التي أعلم أنها قصة الآلاف أو الملايين من بنات مصر.
فأنا يا سيدتي مثلي مثل أي فتاة تعرضت للتحرش بكل أنواعه وأشكاله (لفظا، وتلميحا، وإيحاء، وفعلا) من القريب قبل الغريب، ومنذ أن كنت صغيرة؛ ولكن رزقني الله تعالى بأم واعية تتمتع بعقل وفطرة سليمة -على الرغم أن الوقت الذي بدأت أتعرض فيه للتحرش لم يكن هذا أمرا منتشرا بل أمرا شاذا- وحدث أن كانت أمي تتحدث معي عن عزومة سنقيمها في بيتنا سيحضرها بعض من الأهل، وبدأت في سرد أسمائهم، وعند ذكرت اسم أحد الأقارب اشمئز وجهي.. فلاحظت أمي ذلك وسألتني، خشيت الإجابة.. فأصرت "بلطف"، فقلت لها إني لا أشعر براحة في وجود هذا القريب، وأني أشعر بقشعريرة ما عند سلامه علي، فما كان منها إلا أن أوصتني بألا أسمح له بأن يقترب مني ولا حتى للسلام، مشدّدة عليّ قائلة: "إذا اقترب منك أو أصرّ على أن يسلم عليك.. فقط اصرخي ونادي علي" وقد حدث.. فعند حضور هذا القريب قلت له: "مش عايزة أسلم عليك"، فشعر بإحراج شديد، وأصيب بالارتباك، ولم اضطر حتى لمناداة والدتي.
عند انتهاء العزومة سألتني أمي عمّا حدث فقلت لها، فجلست معي جلسة طويلة تحكي لي فيها عن الذئاب البشرية، وكم أن هناك أناسا بلا ضمائر أو أخلاق، وواجبنا ألا نساعد هؤلاء في قهرنا وإسكاتنا.. وبدأت في تعليمي عدة وسائل أدافع بها عن نفسي في حال تعرضت لأي من المضايقات فيما بعد، أتذكر أنني في هذا اليوم شعرت وكأن جبال الألب قد أُزيحِت من على صدري؛ لأنني حين تعرضت للتحرش الأول شعرت بالقرف من نفسي أولا، ثم من قريبي، ثم من الدنيا وما فيها، وبدأت في لوم نفسي.. ولو لم تساعدني أمي لانحدرت في تلك الحفرة العميقة المليئة بكل ما يبعث على الغثيان.
وبدأت أمارس نشاطاتي العادية من ذهاب إلى المدرسة والدروس وشراء مستلزمات المنزل.. ولم أكن أعرف أن أمي تسير خلفي في كل مشاويري دون أن أشعر، وكانت تظهر لي ك"سوبر مان" في مواقفي الحرجة، وأتذكر منها أنه كان لدي بجوار مدرستي محل يبيع الساندويتشات كنت أشتري منه أنا وصاحباتي قبل دخول المدرسة، ولأنه كان دائم الازدحام، ولأني لم أكن أصل إلى الرجل الذي يبيع الساندويتشات بسهولة نظرا لصغر حجمي؛ فكنت أدخل له داخل المحل الصغير حتى أوفر وقتي وجهدي، وأتذكر حينها أني رأيت أمي فجأة أمامي تسحبني من يدي بلطف.. قائلة لي إن ما أفعله يسهل على الآخرين خداعي، وإنني لا يجب أن أتواجد داخل المحل؛ وإنما مكاني وسط الناس خارجه؛ حتى لا أُعرِّض نفسي لما يؤذيني، وموقف آخر وآخر وآخر... فقد كانت تراقبني عن بُعْدِ حرصا على سلامتي، وعلى الرغم ما كان يشكله هذا السلوك من مجهود شاق عليها؛ فإن ما فعلته معي مدّني بالثقة في نفسي وفيها، ومع الوقت بدأت اتخذ الحيطة في كل تصرفاتي، وإذا تعرضت لأي تحرش كنت أستطيع التصرف مستخدمة إحدى الوسائل التي علمتني أمي إياها.
ولكن دعيني أصارحك.. فلن أنكر أنني وعلى الرغم من ذلك صادفتني عِدّة مواقف شُلَّ فيها تفكيري، ولم يبقَ لي منها إلا الذكرى المؤلمة والجرح الغائر؛ حتى إني أتذكر في إحدى المرات لم أغادر المنزل لمدة ثلاثة أشهر متتالية من شدّة وجعي وإحساسي بالهوان.. ولكني بفضل الله الذي رزقني أمي استطعت الخروج من هذه الأوقات أقوى؛ حتى أصبحت الآن غير قابلة للتحرش.
فثقتي بالله وبنفسي، وإلمامي بالوسائل اللازمة للدفاع عن نفسي، وإدراكي أننا نعيش في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، إضافة إلى يقيني بأني لست مُلامة ولا مذنبة؛ ما دام احترم نفسي شكلا وموضوعا، وما دام أني تجنبت الشبهات ما ظهر منها وما بطن؛ جعل مني شخصية غير قابل للتحرش.
فالمتحرش يا سيدتي شخص ضعيف، وحقير، وبلا دين أو ضمير، ومنعدم النخوة والمروءة والرجولة، وتحركه شهواته، أهم ما يميزه الجبن والخسة، ينطبق عليه قول الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا}.. صدق الله العظيم، فما رأيك يا سيدتي في شخص بهذه المواصفات، أيصعب على من تملك الثقة في الله وفي نفسها أن تقهره، وأن تردعه، وأن تضعه في مكانه الصحيح؟؟؟
أترك لك الإجابة، وإني على يقين أن ما سردته عليك من تجربتي ستنعكس آثارها عليك بشيء إيجابي سيساعدك على التقاط أول الطريق الصحيح.. مع دعواتي لك ولبناتك ولكل من يعاني أو يشغله هذا الأمر بأن يصبغ الله علينا من فضله، وأن نحفظ الله ليحفظنا كما وعدنا رسولنا الكريم في قوله: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك".