تشهد مصر ما يمكن تسميته ب"حرب البيانات".. بدأت مؤخرا مع بيان حاد للإخوان المسلمين شنّ هجوما على الحكومة وحمّل المجلس العسكري مسئولية بقائها، وشكّك في نزاهة انتخابات الرئاسة القادمة، مما استدعى المجلس العسكري للردّ بعدها بأربعة وعشرين ساعة ببيان أشد لهجة مهددا الجماعة بأن تعي دروس التاريخ.. وهكذا خرجت للعلن أنباء أزمة كبرى بين الإخوان وبين المجلس العسكري، وثار غبار كثير وقيل كلام كثير عن "حرب البيانات" هذه، ولكن الجميع نسوا بيانا مهما في هذا السياق لا يمكن تجاهله، وهو بيان حركة 6 إبريل؛ الذي كان من أبرز بنوده التأكيد على أن شرعية البرلمان تأتي من شرعية الميدان، وأن كليهما مكمل للآخر، ولا يجب أن يطغى أحدهما على الآخر، واتهم البيان الأغلبية البرلمانية بأن تصرفاتها كانت تُعدّ محاولة الاستئثار بالشرعية، وتعمل على إسقاط شرعية الميدان، وسحب البساط من تحتها وكأنهما أعداء، لا كأنهما مكملان لبعضهما بعضا. ودللت الحركة على وعي الجانب الثوري بقولها: ولو كنا في موضع الحق لكانت الغلبة للميدان على طول الخط؛ ولكن الثوار بوعيهم وبُعد نظرهم الذي يثبته بيان الجماعة أكثر من أي دليل أو موقف آخر يعلمون منذ البداية عدوهم الحقيقي، وعلى من ينبغي توجيه طاقات الغضب". نحن نتحدث إذن عن سلسلة متكاملة من البيانات للقوى الثلاث في مصر اليوم: جماعة الإخوان - المجلس العسكري - جبهة الثوار.. وبعد بيان المجلس العسكري وظهور بوادر أزمة سياسية بين السلطات والقوى تبنى البعض دعوات للتصالح بين الإخوان والمجلس العسكري، وأرى أن الأولى هو إقامة تصالح بين الإخوان وبين الثوار، وبلغة السياسة لا بلغة العواطف؛ فالأمر كله مرهون بتفاوض بين أقرب طرفين يحقق لهما مكاسب متبادلة، والتفاوض مع المجلس العسكري بعد استخدامه لغة التهديد ورفض إقالة الحكومة يعني إذعانا تاما من قبل الإخوان للمجلس العسكري، وهو تنازل لا تفاوض، أما التفاوض مع القوى الثورية فتتحقق من خلاله مصالح متعددة للطرفين، وأظن أن أرضية هذا التفاوض تكون على أسس: 1- احترام شرعية الميدان بالتوازي مع شرعية البرلمان. 2- حلّ الجمعية التأسيسية للدستور بعد رفض القوى الثورية المطلق لها شكلا ومضمونا. 3- العمل على سحب الثقة من الحكومة عن طريق مجلس الشعب والمشاركة بين القوى الثورية والإخوان في فعاليات شعبية لإسقاطها. بهذا التصالح يتحقق للإخوان مكاسب: 1- الحفاظ على المؤسسة التشريعية التي حصلوا عليها وحصلت عليها البلاد في مواجهة أي مستجدات تصعيد محتملة. 2- ضمان إنجاز دستور وطني حقيقي متفق عليه. 3- تأمين القاعدة الثورية واتساق الجبهة الشعبية في صف واحد لإنجاز تسليم السلطة في موعده.. وبه يتحقق للقوى الثورية مكاسب: 1- المساهمة في تشكيل دستور توافقي. 2- الإسراع بتسليم السلطة دون مفاجآت غير مستحبة، وتحقيق مطالب الثورة. 3- وقف المحاكمات والاعتداءات على شباب الثورة.. لكن كل ذلك مرهون بشرط لا يمكن تجاهله.. وهو أن على الإخوان أن يتقدموا باعتذار واضح وصريح عن أخطاء حدثت من جانبهم في الفترة السابقة، ساهمت في شقّ صف الإجماع الوطني، وعلى الثوار كذلك أن يحافظوا على المؤسسات الشعبية ويحترموا قرار الشعب أيا كان.. سؤال مهم وملحّ ويسأله الكثيرون: لماذا لا يعتذر الإخوان؟ لماذا يتجنبون دائما الاعتراف بالخطأ؟ خصوصا إذا أجمع عليه الكل؟ مع العلم بأن الجماعة تدرّس المكاشفة في مناهجها، وتؤكد دائما أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.. الأمر به شبهة استعلاء لا أستبعدها، ولو أنصف الإخوان لأكدوا الآن وعلى أعلى مستوى في الجماعة أن تأييد استفتاء 19 مارس كان خطأ، وأن تجاهل أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء كان خطأ، وأن رفض المشاركة في الفعاليات الثورية وضرب المليونيات كان خطأ، وأن عدم الالتفات لمحاكمات الثوار وعدم دعم المطالبات بإنهاء تحويل المدنيين لمحاكم عسكرية (وهو مطلبهم في السابق) كان خطأ.. وأن اللجنة التأسيسية للدستور بشكلها الحالي خطأ لا يجب أن يستمر.. الاعتذار فضيلة هم لها أهل.. وقد طالعنا حالة رائعة في ذلك مثّلها محمد البلتاجي -أمين حزب الحرية والعدالة بالقاهرة- حين قال: "علينا كإخوان أن نعترف بأخطائنا التي ساهمت في تباعد القوى الوطنية الثورية عنا، وعلينا أن ننجح في لمّ الشمل الوطني الثوري ومعالجة ما ألمّ به من جراح". نحتاج إلى قيادة في نفس شجاعة و"سرعة" البلتاجي تُلملم جراح الوطن وتتفادى مزيدا من التصدعات، لا ننسى أن البلتاجي كان أحد الذين اعتذروا عن عدم اللحاق بالصف الثوري في أعقاب أحداث محمد محمود، مما يجعله حالة خاصة لا تنسحب مبادراته على الإخوان جميعهم ليكفي اعتذاره الجماعة مؤنة اعتذار واجب وثقيل.. وجاء الرد من حالة رائعة أخرى لشخصية وطنية هي عمرو حمزاوي الذي قال: "أرفض وبشدة الاستقواء بالرأس غير المنتخب للسلطة التنفيذية على أحزاب منتخبة مهما اختلفت معها في الرؤية والتقدير، أبدا لن أتورط في استدعاء المجلس العسكري للسياسة وتنازعاتها التي أريد إخراجه منها كي لا تتكرر بالفعل تجارب الماضي". أيا ما كان الأمر لا أظن أن الثورة من الممكن أن تحقق نجاحا فعليا إلا من خلال التحرك بالجناحين معا، مع إدراك كل طرف لوجود الآخر وحجمه وقوته؛ لأنه في الحقيقة لا ثورة دون إخوان دعموها.. ولا ثورة دون شباب فجّروها.. فهل نعي ذلك؟ أرجوكم..