تشير الأرقام الصادرة من مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني حول حجم الصادرات والواردات الألمانية إلى أمر يثير الاهتمام ويؤثر على الاقتصاد الأوروبي بوجه عام؛ إذ يبدو أن آلة التصدير الألمانية الجبارة بدأت تتراجع في مقابل ارتفاع واردات الدولة، الأمر الذي سوف يحدث قدرا من الاختلالات التجارية في ألمانيا للمرة الأولى منذ وقت طويل، لاسيما وأن هذه الاختلالات كانت من الأسباب الرئيسية وراء الأزمة المالية والاقتصادية في منطقة اليورو. وتوضح إحصائيات المكتب الفيدرالي التي صدرت الأسبوع الماضي أن إجمالي الصادرات الألمانية قد انخفض هذا العام بنسبة 4.8% مقارنة بالعام الماضي (أخذا في الاعتبار أن الدولة لاتزال تتمتع بوجود فائض تجاري جيد يصل إلى حوالي 130 مليار دولار سنويا)، وأن إجمالي الصادرات الألمانية إلى بقية منطقة اليورو، والتي تشكل وحدها نسبة 40% من حجم صادرات المنطقة برمتها، قد انخفض بنسبة 9.6% هذا العام. ومع أنه من السابق لأوانه تحديد مسار واضح لإمكانية استمرار تراجع نسب الصادرات الألمانية، إلا أن المزج بين ذلك وبين تباطؤ معدل النمو في كل من الأسواق الصاعدة وتراجع الطلب في منطقة اليورو سوف يضع تحديات صعبة أمام المصدرين الألمان، حيث تبدو النتيجة المنطقية لإجراءات التقشف وخفض الإنفاق العام في منطقة اليورو هى تراجع الطلب على الصادرات الألمانية من الشركاء الأوروبيين بمنطقة اليورو. وما يلفت النظر في إحصائيات المكتب الفيدرالي أنه منذ شهر مايو الماضي بدأت ألمانيا تعاني من عجز تجاري مع بقية دول منطقة اليورو، فقد صدرت ألمانيا إليهم ما قيمته42 مليار دولار من السلع، واستوردت ما قيمته 45 مليار دولار، وهو أمر لم يحدث منذ حوالي 15 عاما. ويعد هذا الأمر بمثابة تحول دراماتيكي، فعلى سبيل المثال حققت ألمانيا عامي 2007 و2008، أي قبل تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية، فائضا تجاريا يزيد على 130 مليار دولار سنويا مع أعضاء منطقة اليورو الآخرين، وراكمت منذ عام 2000 فائضا ماليا تجاريا ضخما بلغت قيمته 1.3 تريليون دولار؛ وهى تلك الأموال التي تستخدم البنوك الألمانية جزءا كبيرا منها لشراء السندات السيادية اليونانية والأسبانية والإيطالية وغيرها، لتمويل العجز المالي في هذه الدول لمحاولة علاج قضية الديون التي تعتبر من صميم أزمة منطقة اليورو. وحول تأثير هذه المؤشرات السابقة على اقتصاد منطقة اليورو، يرى بعض الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين أن ثمة جوانب سلبية ترتبط بأن حلقة الإنقاذ المالية الألمانية تكاد تقترب من نهايتها إذا استمر الوضع نحو مزيد من التراجع الألماني، حيث الاقتصاديات الأشد تضررا في جنوب أوروبا لن تعد قادرة على استيراد الكثير من السلع الألمانية، كما أن منطقة اليورو بوجه عام تقع في حالة ركود مستمر منذ 24 شهرا، وحتى الاقتصاد الألماني ينمو بمعدل متواضع للغاية يقدر بنحو 0.1\% فقط خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام. أما الجانب الإيجابي المرتبط بالتراجع النسبي لحجم الصادرات الألمانية، فهو أنه قد ينعكس إيجابيا على بعض دول أوروبا الجنوبية، إذ يتوقع أن إسبانيا على سبيل المثال سوف تحقق على الأرجح فائضا تجاريا، ولو ضئيلا، هذا العام (كانت إسبانيا تحقق حتى عام 2009 فائضا تجاريا يبلغ 65 مليار دولار) لأنها ربما تصدر ما قيمته 91 مليارا لتسير مجددا نحو الاتجاه الصحيح. ويعتقد الخبير الاقتصادي بموقع يونايتد برس إنترناشيونال، مارتن والكر، أن الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الألماني تشير إلى ثلاث مفاجآت حقيقية، أولها: أن ألمانيا لا يمكن أن تستمر في ممارسة نفس التأثير على أعضاء الاتحاد الأوروبي مثل دولة كالسويد أو بريطانيا، اللتين لم تنضما إلى منطقة اليورو، حيث بدأت تتراجع وارداتهما من ألمانيا ولو بشكل طفيف، وكذلك فإن صادرات ألمانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي قد انخفضت بنسبة 7.1\% هذا العام، ولم تعد الأسواق التقليدية والأقرب بالنسبة لألمانيا كما كانت عليه خلال الأعوام الماضية، خصوصا مع تراجع صادرات ألمانيا إلى دول الاتحاد في شهر مايو الماضي بشكل أسرع لم يحدث منذ الركود العالمي منذ بداية عام2009. أما ثاني هذه المفاجآت فهى انخفاض نسبة صادرات ألمانيا خارج الاتحاد الأوروبي بنسبة1.6\% عن العام الماضي، إذ كانت الأسواق الصاعدة في دول مثل الصين وروسيا والبرازيل تعوض ألمانيا عن الركود الأوروبي، لكن تراجع حجم الصادرات قد بدأ فعليا، ولعل التباطؤ الصيني الملحوظ في صناعات الصلب والأسمنت والسفن، والذي سوف يستغرق وقتا ليعود بقوة مرة أخرى، يؤثر على طلب الصين للسوق الألمانية التي تحصل منها على أحدث وسائل التكنولوجيا والماكينات ونظم التصنيع المتطورة. وتتمثل ثالث المفاجآت في أن الآثار الطويلة الأمد للتراجع الألماني تبعث على القلق، لأن جانبا مهما من الاقتصاد الأوروبي في منطقة اليورو يعتمد بشكل جوهري على حيوية ونشاط الاقتصاد الألماني. وبالتالي يمكن القول إن التباطؤ الذي تشهده القوة الاقتصادية الألمانية الساحقة، وإن كان يساعد جزئيا في تخفيف أزمة منطقة اليورو من خلال بداية انحسار الاعتماد على الفوائض التجارية الألمانية الضخمة من قبل الشركاء الأوروبيين، إلا أن الاقتصاد الأوروبي بمجمله يسير نحو وضع سيئ، لاسيما إذا ما استمر تباطؤ النمو في ألمانيا. وتشير التنبؤات الحديثة الصادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أن الركود سوف يكون أسوأ كثيرا من المتوقع في نهاية العام الجاري، وأن استمرار تراجع معدلات النمو سوف يشمل كافة دول منطقة اليورو، فاليونان لا تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها من الخصخصة وخفض الوظائف العامة، والبرتغال دخلت في أزمة سياسية بسبب إجراءات التقشف، وأدت الديون الإيطالية إلى تراجع التصنيف الائتماني لإيطاليا إلى درجة تقربها من الدول غير المرغوب الاستثمار بها، كما أن عدم استمرار ألمانيا في شراء السندات السيادية لهذه الدول - رغم إيجابياته - سوف يكون على حساب زيادة معدلات البطالة المرتفعة أصلا، وربما سوف يسبب إرباكا ماليا بسبب تخوف البنوك والشركات الكبرى من خطر الإفلاس.