مضت سنتانِ وأنا اقيم في البصرة في إحدى شركات النفط التي أعمل فيها ، كنتُ أجد صعوبة جداً في التكيّف على بُعادي عن ليلى ، فلم يكن الأمر بتلك البساطة التي تظنّون . فللآن أذكر … أنه قبل أيام من رحيلي من بغداد الى البصرة حيث فكرتُ جدّياً بالرحيل واللاعودة منها أبداً ، كنتُ أفكّر كثيراً ، وأعيش حيرة تساؤلات عديدة لم أشعر بها من قبل … كان يدور برأسي هذا السؤال الذي لم أجد له جواباً حينها … هل أرحل أم لا ؟ إذ لم أقف على رأي سديد فيه من الإيجابيات ما يقنعني على التثبّت عليه إلا ووجدتُ له من السلبيات ما يرغمني عن الرجوع عنه ، ولم أرَني قادراً على الثبات على قرارٍ كان لابدّ لي منه إلا ورأيتُني عدتُ منه بخفَّي حنَين . هما خياران لا ثالث لهما … إمّا الرحيل … وإمّا البقاء … فأمّا الرحيل فهذا يعني أني غادرتُ ليلايَ الى الأبد ، حيث لايمكنني رؤيتها بعد ذلك مطلقاً ، أضف الى ذلك أني قد أكون برحيلي عنها قد فتحتُ لها باباً من الفراغ يجعلها تقرر الزواج رغماً عن قلبها الذي يتعلق بي ، و انه برحيلي قد تظن أني تركتها في مهب الريح لوحدها دون ان تستند على أحدٍ مثلي ، فأنا أعلم أن المرأة الطاهرة لن تنسى حبيبها الذي سكن قلبها ذات يوم ولو اجتمع العالم كله عليها . ولربما برحيلي عنها ستعيش ليلى ايام القهر من دوني (وهذا ما كنتُ أحسبه فيها ) . وأمّا البقاء … وهذا يعني العيش مع جفائها ، وازورار قلبها عني . إضافة الى التساؤلات التي أطرحها على فؤادي دون إجابة منه مقنعة . فما إن يستقر رأيي على البقاء حتى أرى رأياً مغايراً تماماً لما قررتُ ، وأجد تساؤلات ليست لها أجوبة على الإطلاق … ( ربما تغيرت ليلى … ربما لم تعد تكترث لي … ربما لم تعد ترغب في لقائي … ربما تخاف والديها … ربما تخاف بيئتها ربما لم تعد تحبني ربما أنا من كنتُ أوهم نفسي بأنها تحبني …) . ربما … وربما … وربما … وألف ربما جالت في مخيلتي دون إجابة تُذكَر . غير أن خيار البقاء هو الأقرب لقلبي بلا شك ، فحبي لها لاحدود له ، والعيش مع عينيها هو حلمي الممتد عبر سنين . بيدَ أنّ الاستحواذ على قلب ليلى بحد ذاته هو معجزة من الله وجب أن يعتكف لأجلها كل رجال بغداد في المساجد والصوامع أملاً منهم بالفوز بقلبها . وأي معجزة هي ليلى !؟ هي معجزة لايمكن لأي أحد أن تحصل له إلا بعد مقدمات لهذا الفوز ، أهمها النبل في كل المجالات ، كي يمنحها الله لرجل منّا ، وقد كنتُ أظنني ذلك الرجل الذي يمتلك عصا موسى عليه السلام في ليلى . ولذلك فإن خيار البقاء كان يمنحني القرب من ليلى بما لم يمنحه لأحد من قبلي ولا من بعدي . وليلى … هي أرجوزة الحياة ، فكما أن الأرجوزة قصيدة شعرية سلِسة على قلب قارئها ، تنساب بموسيقاها على قلبه كما تنساب المياه من دلاء الناعور على ساقية الزرع ، فكذلك ليلى تطلّ عليّ كإطلالة أشعة شمس الصباح ، وزقزقة العصافير على الأشجار . وأنا بين تيكَ وهاتيكَ … حائر القلب ، خائر القوى .. ولقد رأيتُ من الأجدى أن أسأل ليلى رأيها الأخير قبل الرحيل لأعرف هل مازالت تحبني أم لا ، أو .. هل أنها تحبني أصلاً أم لا . وسؤالي لها يكمن في أملِ أن أجد سبباً مقنعاً لي للبقاء معها ، إذ لا زلتُ أتذكر عينينا وهما تطيلان النظر لعينيّ بعضينا ، كما لو كانتا تتزودان الهواء ، وترقصان في فناء الجنان الواسعة . نعم … أيها الناس … كنتُ أريد مبرراً ما … أي مبرر يمكنني به البقاء والعيش مع ليلى ، في أمل العشق الذي اكتنفني بظله ، وأودعني بين أضلاعه ، وسوّاني بجناحيه عاشقاً لا يعرف في هذه الدنيا إلا ليلى . ما أسوأ هذه الحياة من دون ليلى ! وما أجملها بليلى ! شتان بين هاتينِ الحياتين رغم أن الدنيا هي نفسها ، أرضها ، سماؤها ، ماؤها ، هواؤها ، أشجارها ، دورها ، ساحاتها ، مدارسها ، حدائقها ، رجالها ، نساؤها ، أطفالها ، حقيقتها ، خيالها ، حقّها ، باطلها . رغم أن الدنيا هي ذاتها بتناقضاتها … لكن الميزان هو ليلى لا غير . راسلتها في يوم كان الأربعاء ، الساعة الواحدة ظهراً … وقد كتبتُ لها في رسالتي تلك : – (ياابنة عمران … أخبريني ما رأيكِ في رحيلي الى البصرة من عدمه ؟ أرجو ان تضعي لقلبينا حساباً في جوابكِ ، وعليكِ أن تتأكدي أن رأيكِ هو قراري النهائي الذي لا عودة منه . أنتظر الإجابة منكِ على أحرّ من الجمر) . بعد ساعة من إرسالي الرسالة ، رحتُ أعاين الهاتف لأرى هل قرأتها ليلى فتعجلت هي بالإجابة لي ؟ لكن الهاتف مازال يشير الى أن ليلى لم تقرأ الرسالة بعد ، فضلاً عن إجابتها ، حتى صار منتصف الليل ، وليلى لم ترَ رسالتي بعد في هاتفها … تساءلتُ في نفسي … أي شغلٍ ذلك الذي يشغلها عن قراءة رسالتي لسطرين اثنين فقط ؟ أوَ لا تجد ليلى أن الأمر يستحق أن تسرع في قراءتها ، والجواب عنها …؟ ثم عدتُ فمنحتُها ألف عذرٍ لانشغالها … (ربما هاتفها ليس في جيبها … ربما هاتفها معطّل … ربما هي مريضة … ربما جاءتها رسائل عديدة ولم تكن تدري أن إحداهن مني .. ربما هي في العمل الذي لا يعطيها وقتاً لقراءتها ) ربما … وربما … وربما … وتعددت هذه ال ( ربما ) حتى تعدّت الألف . ومضت ليلة الاربعاء دون ان ترى ليلى رسالتي .. وجاء الخميس واستيقظتُ عند فجره … وفرشتُ سجادتي وسألتُ الله في صلاتي أن ترى ليلى رسالتي ، وتوسلتُ إليه ان تجيبني بالبقاء معها . تخيّلوا — يا أصدقائي — أنني أدعو أثناء صلاتي لتقرأ ليلى رسالتي !؟ أي جفاء منها لي أكبر من ذلك !!؟ ومضى نهار الخميس وليله دون ان تقرأها هي . وجاءت الجمعة واصطفت الملائكة فجراً أضعافاً مضاعفة وانا اتوسل الى الله في صلاة الفجر ان تقرأ ليلى رسالتي وتردّ عليّ بما يريح نفسي ويسكن اضطرابي . عند الساعة الرابعة عصراً … جاءني الردّ منها برسالة مختصرة جداً ، كانت كالآتي :- يا الله … لاادري … هل كنتُ أتوقع هذه الإجابة التي تجافي فؤادي الى أبعد حدّ ؟ أم أنها فاجأتني بهذه الطريقة القاتلة ؟ فهل استوعبتُ أنا ما قالته لي ؟ أم مازال هناكَ أمل لي يخبرني أنني اسكن قلبها ؟ أي أمل !!!؟ هل أضحك ؟ أم أصرخ؟ هل أضجّ الى السماء وملائكتها ؟ أم أنادي اهل الأرض وسكانها ؟ فلعَمري … لولا وَقاري ، وهدوء طبعي ، لاستصرختُ الثقلينِ من عباد الله يندبونني لما أنا فيه من الوجع والألم . حتى وقعتُ على الأرض لعدم قدرتي على الوقوف على قدميّ الكبيرتين ، ولم أعد قادراً على التفكير في أي شيء ، إذ لم يعد هناك شيء … ولم أعد أستطيع ان أميّز أي نوع من اللغة كلامها ؟ ( أهو جفاء لا ثاني له !؟ أم هو جفاء وإعراض ممتزجانِ !؟ أم هو جفاء وإعراض وغدر مشتركات !؟ أم … !؟ أم … !؟ أم … !؟ يكفي … لاقدرة لي على التفكير ) . بعد عناء ووجع … قررتُ الرحيل الى البصرة والعيش فيها وعدم العودة الى بغداد إلا لظروف استثنائية . حزمتُ أمتعتي وكل ما أحتاجه ، و لبستُ تلك الساعة التي أهدتنيها ليلى ذات يوم حين كان قلبها طريّاً ، ويداها مبسطوتين لي . وأنا أحزم حقائبي ، رأيتُ صورة ليلى على طاولة غرفتي التي كنتُ أضعها عليها لتنعم عيناي برؤية ليلى عند كل استيقاظ ، وتناما على سِحرها عند كل ليلة . كنتُ أناغيها … أناجيها … أغنّي لها … أحاورها … أعاتبها … ألومها … أغار عليها … أغرق في أبحرها . أخذت تلك الصورة ووضعتها في حقيبتي . وأذكر … ذات يوم … خرجتُ من بيتي لزيارة كربلاء المقدسة ، لأتشرّف بالإمامين الحسين والعباس عليهما السلام ، وقد تبرعتُ لإعمارهما مبلغاً بسيطاً كنتُ قد سجلته بوصلٍ باسم ( ليلى ) ولم أسلّمه لها في وقتها ليبقى تذكاراً جميلاً منها عندي . وحين أخبركم بذلك ، فإني أود أن أوصل لكم فكرة — أيها العاشقون — الى أي مدى كانت ليلى تشغل تفكيري وتحيا بكياني ، وكيف كنتُ أحاول ان أجعل ذكراها بي ما حييت ُ ، وكيف كنتُ أراها معي في كل خطوة … وإني أقسم لكم — أيها العاشقون — لو أن ليلى دارت الأرض طولاً وعرضاً فإنها لن تتمكن من إيجاد عاشق نبيل لها مثلي .. وإني أكاد أجزم لكم — أيها العاشقون — أني فزتُ بقصب السبق دونكم ، وأني تجاوزتُ حدود الهيام والغرام الى الجنون بتلك المرتبة التي لم تصلوها بعد … ولن تصلوها ابداً . فمَن مِنكم يرى معشوقته مثلي ليل نهار ؟ تستيقظ عيناه على عينيها العسليتين ، فيلقي عليها تحية الصباح بكلماتٍ غزلٍ بما يستدركه من طاقته ، وبما يلائم من ذائقته ، حتى ليكاد يختلف ذلك الغزل في كل يوم وليلة عن كل يوم وليلة أخرى . فيبتسم لها ويحاورها حواراً أجمل من الأفلام والمسلسلات . ومما هو عجيب لي — وأقسم على ذلك — أني بدأتُ أراها تبتسم لي وتجاريني بحوار الألسنِ والشفتين ، فضلاً عن لغة الجفنين والعينين . وعندما حان موعد سفري صباحاً الى البصرة أخذتُ وصل التبرع الذي تبرعتُ به لها ، ووضعته في جيبي ، أشمّه أثناء ساعات سفري الطويلة ، وأطيل النظر إليه والى أحرف اسمها الممهورة بالشمع الأحمر … على أني أمام كل ذلك الزخم من الوجع والحيرة لم أنسَ أن أبعث لها رسالة تعزية لهذا الفراق الموجع … (رسالتي إليها … أميرتي النبيلة …. ولقد خسرت ُ الجولة الأخيرة فيك ِ … فأصبحت ْ يدك ِ التي أراقت دمي أسمى من يديَ التي صانت دموعك ِ ، وأصبح شبحك ِ الذي ضيّق على قلبي حزناً أشدّ من وحييَ الذي شرح قلبكِ سعادة . حتى لكأنّ فؤادي يبكي بدموع الغمام ، وقلبي يخفق بهدير الرعد ، وروحي تئنّ بأنين اليتامى ، فأزفر زفرة الموت . فلا أكتمكِ – ياأميرتي – ماالصبابة التي مالت إليك ِ حتى آليت ِ إلّا أن تسدلي من دونها الحجاب ، وتقطعي عن مسمعك ِ سلسبيل العتاب ، فوالله – رغم كل مافعلتهِ بي – ماعييت ُ بأمرك ِ ، ولابرمتُ بحملك ِ ، فمالي عن وجهك ِ المنير حيلة في البعد عنك ِ ، ولا الفرار منك ِ …