مازلتُ أتذكر أني اتصلتُ بليلى عدة مرات بالهاتف ، لكنها لم تجب ، ولم أكن أعلم السبب الحقيقي ، أو … فلنقل أني لم أكن أدري بما يدور بداخلها من أفكار وهواجس بعد أربع سنوات تقريباً من علاقة وطيدة كنت أراها حباً ، ولكن تصرفاتها بعد خطبتها — التي لم أكن أعلم بها للآن — كانت توهمني خلاف ذلك لما رأيتُ منها من إعراض لي وجفوة … وذات ليلة من الليالي الحالكة ، وفي وقت متأخر رنّ جرس هاتفي ، لم أستوعب ذلك فقد رأيتُ اسمها بالهاتف وصرخت .. :- ياالله .. إنها هي من تتصل بي … فرحتُ فرحاً شديداً ولم أصدق أنها تتصل بي ، فهي قد أصبحت في الآونة الأخيرة كالعملة النادرة . رفعتُ السماعة وكان هذا الحوار البارد ، والذي هو أشد برودة من شتاء بغدادي … :- ألو … مساء الخير ياجعفر . :- ألو … مساء النور يا ليلى ، كنت انتظركِ أياماً ولياليَ ، لمَ هذا الغياب ؟ :- أريد أن أراكَ غداً ياجعفر . :- تتدللين ياليلى … سنلتقي في نفس المقهى المعتاد الساعة العاشرة صباحاً . وبقيتُ تلك الليلة أفكر وأفكر ، كيف سألتقيها ؟ بأية شفتين سأحدثها ؟ بأية عينين سأراها ؟ بأية أذنين سأسمعها ؟ بل بأي أنف سأشم عبيرها الفواح ؟ . رحت أصوغ التعابير مع نفسي جملة جملة ، وكلمة كلمة ، بل حرفاً حرفاً . جلستُ على أريكتي المتواضعة ورحت أحاور ليلى وأنا أتخيلها جالسةً قبالتي في المقهى … :- (أتعلمين يا ليلى أن لديّ قاموساً أدّخرهُ لكِ أنتِ فقط ؟ أنتقي منه مايناسب مقامكِ ، و يضاهئ نبلكِ ، و يوازي مشاعري نحوكِ ، حتى إذا لم أجد ما يليق بجلالكِ ، وما يرتفع الى سموّكِ ، أرجعتُ تلك الكلمات ، ورحتُ أفتش عن بدائلَ لها في قاموس غيرِه ، فإذا عجزتُ عن إيجاد ما يساويكِ شأناً ، ويلائمكِ قدراً ، رحتُ أبحث في عالم الملكوت ، وشأن الناسوت ، عساني أفلح في تسطير جملة أو جملتين أفضي بهما إليكِ . فالعاشق يا ليلى لايكلّ من البحث ، ولايملّ من الانتظار . ولعَمري يا حبيبتي … إني لأنتقي كلماتي تلك بعد بحث يطول ، وانتظار مَهُول ، خشية أن لا يوافق مزاجكِ ذات مرة ، فآخذها بعناية الطبيب ، وأتناولها برعاية الرقيب ، كلمة كلمة ، أطليها بماء الذهب ، وأُنقِعها بماء الورد ، ثم بعطر البنفسج ، ثم بزهر الآس، ثم بالنرجس والياسمين ، ثم بألف نبتة من حدائق الروح ، وعذوبة البوح ، مرة بعد مرة ، فإن فاحت ، و شمّها المارّون عن بُعدِ أذرعٍ كثيرة ، صرت ُ أعاود الكرّة تلو الأخرى ، عسى أن يروق لك عطرها ، ويعجبكِ شكلها ، فإذا لقيتُكِ ، نثثتُها على رأسكِ كما تُنثّ الحلوى على رأس العروس ، فيختلط عبق الورد بعطر جسمكِ الذي هو أشدّ عندي من رائحة المسك والعنبر . فإذا فعلتُ بكِ ذلك ، انسابت كلماتي حرفاً حرفاً ، على شعركِ الذهبي ، فأمسحه خصلة خصلة ، من جذره الى أطرافه ، يصطبغ بها كأن ْ لا فرقَ بين جدائلكِ ولون أشعة الشمس ، فيحتار الرائي بكِ وهو يشاهدها تنسكب على عينيكِ وقد غطت حاجبيكِ الهلاليينِ ، ورمشيكِ الطويلين ، فينصبغ جفناكِ بزهر الآس ، ووجنتاكِ بلون الورد ، وشفتاكِ بذات البنفسج ، حتى إذا سالت على أخمص قدميكِ ، صرتِ أشبه بملاكٍ لم يخلق الله لكِ نظيراً ، أو حوريةً لم يكن لكِ أيّ شبَه ) . كانت هذه رسالة رتبتها لها لأقرأها على مسامعها عند لقاء الغد … لقد كانت ساعات الليل ثقيلة عليّ ، كنتُ أعدها بأصابعي لألقى عينيها العسليتين … وآهٍ من عينيها . كم تمنيتُ في تلك الساعة أن يحيل الله الليل نهاراً ، فأسرع الى محالّ العطارين ، ومقرّ العرافين ، أتزوّد منهم تعويذة أستعيذ بالله بها لعينيها الجميلتين ، ولأسرعت ُ إليها ببخور أمي أبخرهما به طوال نهاري … لم أنم تلك الليلة … ولم أعرف الهدوء ، كان القلق يساورني ، والأرق كاد ان يقتلني ، فوالله .. لن أنسى تلك الليلة ما حييتُ . صاح الديك ، وطلع الصباح ، فقفزتُ من سريري وأنا متعب للغاية من السهر والتفكير ، ورحت أدقق النظر في ساعتي كل دقيقة ، وأتعجل عقاربها لألتقي حبيبتي ليلى بأرقّ عبارات اللقاء . عجلتُ بنفسي الى ذلك المقهى الذي لم يّفتح بعد لأنني ذهبتُ إليه بشكل مبكر جداً ، إنتظرت ساعة حتى فتحه صاحبه ، فدخلته وكنتُ أول الوافدين إليه .. كنت أراقب ساعة المقهى دقيقة دقيقة حين دخلت ليلى فيه بعد أن تأخرت عن موعدها عمداً . جلست ليلى مقطبة الحاجبين ، عابسة الوجه ، وكأنها تجلس مع رجل لاتعرفه ، سلّمت عليّ ، ورددتُ لها السلام بسلام العاشق ، وتحية الملهوف ، وأنا انتظر الفرصة لأقول لها ماحفظتُه بالأمس من كلمات لها . قالت ببساطة لم أعهدها فيها من قبل … : – جعفر … آن لك ان تعرف أني لست من العاشقين ، فافهم أرجوك . قلت : – ماذا تقصدين ياليلى ؟ قالت : – أقصد انكَ تمضي وقتك معي في سراب . قلت :- ومادار بيننا من قبل ياليلى ؟ كيف لك أن تفسريه ؟ نظرات طالت بيننا حتى تقرحت اعيننا من تلك النظرات ، وكلام شبه عسل صاغته ألسنتنا ، و لاكته افواهنا وهثمته أضراسنا ، كيف لك ولي ان نفسره ؟ . أ ما كان ذلك حباً ؟ أ كان كل ذلك مجرد جلسات لاتعني شيئاً لكِ ياليلى ؟ ألم يكن عشقاً ؟ إذن اخبريني كيف أوحيتِ إليّ بذلك ؟ أم أني حلمتُ حلماً فكان اضغاثاً لا غير ؟ وتلك الخواطر التي كنا نتواردها سوياً في وقت فراغنا من الليل ؟ ماذا كانت تعني برأيكِ ؟ أ تظنين ان هناك من أوحى لي بعشقكِ لي سواكِ ؟ أبهذه البساطة ياابنة الأطايب تخبرينني ان لا قلب تملكينه ؟ وأن لا مشاعر تركبكِ ؟ أي جرمٍ هذا الذي ترتكبينه بحقي ؟ ثم تأتين وأنت تميسين ميس الظباء لتخبريني انكِ لستِ من العاشقين ؟ أيّ كبدٍ ياليلى فريتِه ؟ وأي فؤادٍ ذبحتِه بغير سكين ؟ محال ان تكوني أنت ليلى … محال أن تكون هذه اليد التي تمدّينها إليّ الآن هي نفس اليدِ التي مددتِها لي أول مرة … محال ان تكون عيناك هما نفس العينين … محال ان تكون شفتاك هاتان هما ذات الشفتين … محال ان اكذّب نفسي في ما كنتُ قد سمعتُه منكِ من قبل … محال ان أكذّب ما ورد في خاطري ، وما جال في خيالاتي .. عبدالباري المالكي عبدالباري قام بالإرسال أمس، الساعة 4:09 م محال ان اكون مخطئاً أيتها الراهبة فأوحيتُ الى فؤادي خطأً أنكِ تعشقينني … ثم علا صوتي قليلاً بسبب انفعالي وانا اكلّمها … : – أخبريني أيتها الراهبة الجميلة … هل كنتِ تكذبين عليّ … وحاشاكِ ان تكذبي …؟ أم كنتِ تشفقين عليّ من حيث لا ادري … ؟ وحاشاي ان يشفق عليّ أحد … أ اخبرتُكِ ياراهبتي أني كنتُ ميتاً من قبل فرأيتِ أن تحييني على يديكِ بالوهم …؟ أم سألتكِ إحساناً فتفضّلتِ به عليّ من رضابكِ ؟ أم كنتُ ضالاّ فآويتِني الى قلبكِ ؟ أم رأيتِني آثماً فعمّدتِني بنداكِ ؟ أم كنتُ مستجدياً عطف أحدٍ فوهبتِني ما أستجديتُه من عطفكِ …؟ أم كنتُ أدور بين الأزقة والحارات بغير رشدٍ فوجدتِ أنّ من واجبكِ أن تهدي مشرداً مثلي فهديتِني ؟ ام رأيتِني جوّالاً فحزمتِ أمركِ لتسيري معي في تجوالي ساعة من الزمن ؟ أم وجدتِني فقيراً للعشقِ فرأيتِ أن تغنيني بالإيحاء ؟ ام رأيتِني محتاجاً فتكفّلتِ بحاجتي …؟ قالت : – جعفر … أرجوك لم يكن هذا ولا ذاك .. قلت : – وماذا كان ياليلى ؟ هيّا خبّريني ؟ أتراه كان مجرد مداراةٍ منكِ لي ياليلى ؟ … كمن يداري أحداً في عمله ليتجنب خلافاً معه ، خبريني ياابنة عمران ، أكان كل ذلك مداراة !! مداراة لأي شيء؟ مداراة لمشاعري التي أسقطتِها على الأرض بين قدميكِ ؟ مداراة لقلبي المسكين الذي قوّضتِهِ حتى صار مدمى . ثم أكملتُ عتابي لها ولومي وهي ساكتة تذرف الدمع على وجنتيها الورديتين :- خبّريني ياليلى متى قسوتُ عليكِ لتداريني ؟ ومتى أسأتُ لكِ لتصانعيني ؟ ومتى أحرجتُكِ في شيء لتجامليني ؟ ومتى اوقفتكِ موقف الضعف لتداهنيني ؟ ومتى أبلغتكِ مبلغ الرهَقِ فعزمتِ على أن تلاينيني …؟ ومتى أكرهتكِ على أمرٍ لتلاطفيني …؟ أي حديثٍ لكِ بعد هذا ياليلى معي ؟ فوالله … لو كنتُ قد شككتُ في كل نساء الأرض من قبلُ ، ما شككتُ فيكِ . ولو كنتُ في ما مضى قد ارتبتُ في أفعالهنّ ، ماارتبتُ في فعلٍ منكِ قد صدر .. ولو ساء ظني بأجمعهنّ آنذاكَ لحسنَ ظني بكِ ياراهبتي .. ولو كان قد أخبرني العذّال أنكِ مخادعتي لما أقررتُ لهم بخديعتكِ لي … ولو أرغموني يومها على التخلي عنكِ ماكنتُ لأتخلى عن ظفرٍ فيكِ . ولو صلّبوني على جذوع النخل ما كنتُ لأداهنهم فيكِ ولو قطّعوا يديَّ وأرجلي من خلاف . لكن … هيهات …هيهات … فوالله ِ … لقد فريتِ كبدي … ووالله … لقد ذبحتِني بغير سكين . فقد مات فؤادي … رحمة الله عليه . تأوّهت ليلى كثيراً وكأنها زفرات موتها ، أو كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تنظر إليّ نظرة حبّ أصبح دون جدوى . ثم أخذتُ ورقة وقلماً و رحتُ أكتب لها بعض ما يجول في خاطري ، ووضعته على الطاولة بين يديها لتقرأه على مهَلٍ وأنا أغادرها ، دون ان تنبس ببنت شفة والدموع تتدفق على خديها .