لا توجد أكثر من الحقائق الميدانية علي الأرض لمن يريد أن يراها، تثبت أن مصر ما قبل ثورة 25 هي دولة تنهار، وكنت دوماً أندهش ممن يقرأون الأوضاع في مصر ويحللونها ثم يقولون (انتظروا الكارثة قريباً في مصر) وكأننا سنستيقظ ذات يوم لنجد كارثة وقد حاقت بوطننا، دون أن ننتبه إلي أننا نعيشها بالفعل يومياً، فمصر كل يوم تستيقظ علي مصيبة ما، انهيار بنايات أو تصادم قطارات، أو تسمم جماعة كاملة من الناس بأغذية منتهية الصلاحية، أو غرق شباب مصريين يريدون عبور المتوسط إلي إيطاليا وأوروبا، جنة الشمال بدلاً من جحيم هنا، هذه هي المصائب اليومية التي نستيقظ عليها ونتابع جديدها يومياً، أما المصائب المستمرة والمعاشة في نسيج الحياة المصرية منذ عقود فليس أولها غول البطالة، وليس آخرها تأخر سن الزواج، الذي جعل لدينا ملايين الفتيات اللواتي تعدين سن الخامسة والثلاثين دون أن يتزوجن ومقابلهن العدد نفسه من الشباب، وهؤلاء الملايين من الشباب لا يستمرون بشراً أسوياء، إنما يتحولون مع الوقت إلي قنابل موقوتة، وقد أدي الكبت الجنسي لديهم إلي تشوه فكري، إضافة إلي ما يتراكم عليهم من عقد اجتماعية تعانيها الفتيات علي الأخص اللواتي يُنعتن بالعنوسة وينظر لهن كمنبوذات، إن مثال الشباب العاجزين عن الزواج والمشلولين بالبطالة بالأخص هو النموذج الأوضح لفشل مصر في عهد مبارك البائد لأن الشباب هم محركو أي دولة حية تريد أن تنهض، وهذه الطاقة الكبري في مصر مشلولة تماماً، وعاجزة عن القيام بأي فعل من شأنه أن يُخلصها من مشكلاتها، وبالتالي لا يستطيعون تقديم شيء لأنفسهم ولا للبلد. وهناك بعض الأصوات النشاز للآن التي تسير ضد الثورة المصرية، وتقول إن مصر في عهد مبارك رغم بعض السلبيات كانت دولة متماسكة ولها (رأس) يقصدون رئيسا يحكمها وكان بلدنا متماسكاً علي غير ما هو الآن من فوضي تضربه.. وهذا هو العماء بعينه والكذب.. ومن يقول ذلك ليس سوي «الفلول» والمنتفعين من النظام السابق الفاسد.. أو علي أفضل تقدير (أبناء مبارك) الذين يضربون آباء الشهداء وأهاليهم في الشوارع دفاعاً عن رئيس فاسد أقصاه شعبه. ما الذي لا يوجد من شواهد ميدانية في مصر تثبت أنها دولة منهارة فعلياً وفي طريقها للتهاوي التام قبل ثورة 25 يناير؟ في كل يوم نستيقظ علي كارثة، وهذه الكوارث اليومية التي تحدث ليست وليدة الساعة أو المصادفة، إنما هي صورة نهائية - طريفة لسلسلة طويلة من الإهمال، فالقطارات التي تحترق كل فترة في مصر مثلاً ليست مشكلتها أن أحدهم (ألقي عقب سيجارة) كما كانت تقول الحكومة باستمرار، وإنما ما يحدث هو مؤشر علي تهالك منظومة الصيانة للسكك الحديدية في مصر، وأن السكك الحديدية التي يزيد تاريخ إنشائها في مصر علي 120 سنة، تهالكت بما يكفي لأن ينقلب كل شهر قطار أو تشتعل فيه النيران، لأن الدولة التي تنفق الملايين علي ميزانية كرة القدم، وفوازير رمضان، لا تأبه لحياة المواطن البسيط، أن يحترق في قطار أو ينقلب به خارجاً علي قضبان تآكلت، الأمر نفسه ينطبق علي المساكن المتهالكة، التي يمكن حفظ أرواح ساكنيها لو أقمنا لبيوتهم مشروعات تنكيس وترميم، لكن طالما أنهم يتمسكون بالبقاء فوقها، وتحتها أيضاً. إن مصر ما قبل ثورة 25 يناير العظيمة كانت دولة تتهاوي ولم يعد بها سوي الرمق الأخير لتلفظ أنفاسها، غير أن ثورتنا المجيدة التي أحيتها بثت فيها الروح وأعادت لأهلها الإحساس بالكرامة والرفعة والحق في الحياة. وعلي الذين يهاجمون الثورة المصرية ويحاربون الشهداء وأهاليهم ويسيلون دماءهم في الشوارع والساحات وأمام ساحات المحاكم أن يعودوا إلي جحورهم التي كانوا يعيشون فيها قبل الثورة أو أن يعترفوا بالواقع الجديد المضيء لمصر وينخرطوا فيه مع أهلها بشرف قبل أن ينبذهم الجميع ويحتقرهم التاريخ. [email protected]