مهمة صعبة وشاقة – تبدو أحيانا مستحيلة – عملية تطهير مصر من الفساد الذي وصل إلى النخاع .. فلقد قام النظام السابق بعملية إفساد ممنهجة ومنظمة وعلى درجة عالية من الكفاءة – وهي الكفاءة الوحيدة التي إمتلكها خلال حياته التي إمتدت لثلاثين عاما .. سبقها ست سنوات متدربا في مدرسة الرئيس السادات السياسية !! وكان معروفا في الأوساط السياسية المعارضة أن الرئيس يحتفظ بملفات لعديد كبير من السياسيين .. وأنه كان يختار من يستطع السيطرة عليه من خلال الفضائح الجنسية أو عمليات الفساد .. وتلك كانت أول مؤهلات الشخص المناسب .. أي المناسب من وجهة نظر الرئيس . أما السمة الثانية التي يختار بها معاونوه فهي صفة " سلاطة اللسان " وقمع الآخرين من خلال بذاءة الألفاظ .. وكلنا نتذكر المرحومين " زكي بدر " و " كمال الشاذلي " .. لا يجوز عليهما – الآن - إلا طلب الرحمة لهما !! .. وكان الرئيس " يستجدع " هذه الشخصيات ويقربها منه .. ويحكى أن أحد الشخصيات تم تعيينه وزيرا في وزارة مهمة جدا وإرتفع نجمه بعد ذلك , لأنه رد على إنتقادات أحد وزراء دول الرفض – آنذاك بسباب بذيء جدا تناول فيه " الأم " . وكان تعليق الرئيس حين عرف بالواقعة : " ده واد جدع " ..وأتي به وزيرا .. هذه الشخصية تبدو حظوظها- الآن - في خلافة مبارك كبيرة جدا !! أما وزير المالية السابق " يوسف بطرس غالي " فقد إشتهر بسلاطة اللسان والبذاءة في مجلس الشعب و سب الدين .. ولم يكن يردعه أحد .. فقد كان يتمتع بحماية الرئيس !! نفس الشيئ يمكن أن يقال عن الشخصية " الكروية " المعروفة بسلاطة اللسان والبلطجة اللفظية .. فقد كان هذا الشخص لا يكف عن تأكيد أحترامه للرئيس مبارك والإيحاء برضا الرئيس عن تصرفاته وتجاوزاته في كل برنامج يظهر به .. وتحت هذا " الغطاء " كان يسب أي مسئول ويتناوله ببذيئ القول .. وكانوا يسكتون جميعا لأن الرئيس " يستجدعه " .. وتبعه في ذلك شخصيات رياضية أخرى كانت مواهبها في البذاءة تذاع في عدد من قنوات التليفزيون .. ويعاد بثها صوت وصورة على مواقع الإنترنت .. هذه هي قيادات مبارك في حقل الرياضة التي لم تعد تهتم بالرياضة , التي لم تعد وسيلة لتربية الأخلاق والفكر , بل كوسيلة للتطاول والسباب وتصفية الحسابات !!! ولقد غذت القنوات الفضائية المستقلة الإتجاه نحو الخشونة والتطاول بعد أن أصبحت سخونة اللقاءات وكمية البذاءة فيها تعبيرا عن سخونة البرنامج وجلب الإعلانات .. وأصبح هذا هو الأسلوب السائد والمتفق عليه بين معدي البرامج ومقدميها وضيوفها !! مثلا .. الصحفي المعارض الشهير الذي كان يشتم مبارك في مقاله اليومي في الجريدة التي يرأس تحريرها , بينما برامجه التليفزيونية منتشرة في قنوات خاصة قريبة من دهاليز السلطة عبر مالكيها من رجال الأعمال .. والمدهش أن الدولة التي كان يهاجمها وهددت بحبسه منحته برنامجا يوميا كوميديا على قناة " نايل كوميدي " خلال شهر رمضان ..مكافأة له على المعارضة طبعا !! المهم أن صاحبنا هذا كان يدير برامجه بمفهوم " القهاوي البلدي "..بقفشاتها والفاظها المبتذلة ..حتى عنوان برنامجه الرمضاني – إياه – كان عنوانه يحمل مضامينا بذيئة !! أما المذيع - الآخر - فكان يقدم برنامجه بأسلوب " الغرزة " .. ولم يكن عجيبا أن تسمع منه في البرنامج الفاظ وإشارات ذات دلالات بذيئة ومنحطة .. وفي أقل من ثواني انتقل من دعم " مبارك " شخصيا الى الانقلاب عليه بألفاظ يعف اللسان عن ذكرها .. ولازال موجودا كنجم إعلامي كبير !! وهكذا سادت الخشونة اللفظية وأصبحت وسيلة التعامل الوحيدة في الشارع المصري , في كل الطبقات العليا .. وأصبح التباهي بالبذاءة والشتائم سلوكا معتادا حتى بين أبناء الطبقة العليا والطبقة المتوسطة بحجة " الجدعنة " والإقتراب من روح الشعب .. ووصلت " روح الشعب المبتذلة " هذه الى عالم السينما فوجدنا رواد السينما الواقعية الجديدة - في زمن مبارك - يحشرون ألفاظ السباب والبذاءات في أفلامهم .. وكأن صلاح أبوسيف وعاطف سالم وكمال عطية وعلي بدرخان .. وغيرهم من كبار مخرجينا , كانوا يصنعون أفلاما للخيال العلمي وليس أفلاما " واقعية " جميلة وخلابة .. ودون لفظ بذيء واحد !!! البلطجة البوليسية .. والتحرش بالمعارضين والمخالفين جسديا بالضرب والإهانة ( حتى القضاة أنفسهم وصلتهم خشونة النظام في واقعة ضرب القاضي بحذاء ضباط أمن الدولة ) كان من صفات نظام مبارك ورجاله ورموزه .. وينبغي أن تعود لروح الشعب الحقيقية والتعفف عن الخشونة وبذاءة اللفظ بعد نجاح الثورة .. أما أن يحدث هذا ..أو ..أو رعب أكبر من هذا سوف يجيء !! *أستاذ الجراحة .. والأمين العام لحزب الوفاق القومي .. [email protected]