يتحرك المصريون اليوم فوق أرض تغطيها خرائب هي ركام عام من حكم الإخوان وقرابة ثلاثة أعوام من البحث عن صيغة سياسية ، وركام نظام حكم مصر ثلاثين عاما ولم يترك موروثا سياسيا يمكننا البناء عليه ، وركام عقد من التعددية الساداتية التي فشلت في تحقيق الإجماع الوطني الذي استهدفه السادات بانحيازه للتعددية ، وركام تجربة ناصرية ركزت على الاستقلال الوطني والتنمية والعدالة الاجتماعية ثم دفنت الهزيمة العسكرية والعداوات الدولية والإقليمية كل هذه الطموحات. وسط هذا الركام تترنح القوى التي تحتل صدارة المشهد السياسي ، تأفل شمس جماعة الإخوان المسلمين بعد أن ظهر وجهها الحقيقي كعصابة من القتلة ، ولاتبدو جبهة الإنقاذ التي اعتبرها البعض نقيضا ليبراليا لجماعة الإخوان مؤهلة لأي دور فعال في المستقبل المنظور. لقد ظهرت بهدف انقاذنا من هجمة تترية إخوانية ، وكان لها دور كبير في احتفاظ روح المعارضة السياسية للإخوان بحيويتها الإعلامية ،لكن التاريخ المصري حتم أن يأتي اقتلاع الإخوان من المشهد نتيجة لتواصل بين الشعب وقواته المسلحة وليس نتيجة لعصيان مدني شامل ،مثلا، نظمته جبهة الإنقاذ . وأيا كان الأمر فقد جاء من أنقذنا من الإخوان ولم يعد لجبهة الإنقاذ دور تلعبه. وإذا كان واحد من أهم الأمناء على تراث حسن البنا في مصر وهو الدكتور كمال الهلباوي لا يتوقع أن يفوز الإخوان المسلمون في أي انتخابات مقبلة بأكثر من خمسة بالمائة (ولا أدري هل هذا تحذير للإخوان أم تخدير للقوى السياسية المناهضة لهم ) فأنا لا أرى تيارا منظما قادرا على أن يحتل الفراغ الذي تركه سقوط الحزب الوطني في 2011 وسقوط الإخوان المسلمين في 2013. وبرأيي المتواضع فإن ماسقط في 2013 مع اقتلاع محمد مرسي هو – من ناحية بنيوية خالصة – هو ذاته ما سقط في 2011مع تنحي حسني مبارك في نهاية العهد الساداتي- المباركي ، وهو ذاته ما سقط في 1975عند حل الاتحاد الاشتراكي ،وهو ذاته ما سقط في 1953 مع إلغاء الأحزاب بقصد وضع نهاية لهيمنة حزب الوفد على الحياة السياسية . السقوط المتكرر طوال ستين عاما هو سقوط الوسط البراغماتي المهيمن. لم يكن حزب الوفد منذ تأسيسه في 1918 سوى حزب وسطي يسعى للحفاظ على الدستور ويسعى لتحقيق الجلاء .ولم يكن على يمين الوفد وعلى يساره أيام الملكية أحزاب حقيقية بل خشب مسندة بقوة القصر والانكليز . وورث عبد الناصر وسطية الوفد ولكن بخطاب عصر جديد وبسياسات ما بعد الكولونيالية.واختلفت وسطية عبد الناصر عن وسطية الوفد من حيث أن عبد الناصر أقنع الهامشين الإسلامي والشيوعي بالانضواء تحت لوائه ولم يبق على التعددية القاصرة التي كانت موجودة أيام الوفد .كان يمكنه تطوير هذين الهامشين في الإطار الوطني الجديد الذي أسسه لكنه فضل الشمولية . وهنا انكشف العيب الموروث في الحياة السياسية المصرية من حيث إنها لم تقبل طوال المائة عام الأخيرة إلا بلاعب واحد لابد أن يكون وطنيا ووسطيا وبراغماتيا ،يحقق المصلحة العامة بالطريقة التي يراها هو وحده. ورث السادات ومبارك الوسطية الناصرية لكنهما حاولا نقلها من يسار الوسط إلى يمين الوسط، وانتهى عصر السادات – مبارك قبل أن تنجح الحكومة في استكمال تنفيذ الشروط الدولية اللازمة لهذا الانتقال . وفي نهاية عهد مبارك حاولت مجموعة جمال مبارك أن تتوغل يمينا باتجاه الليبرالية الجديدة لكن أزمة الرأسمالية العالمية التي بدأت في 2008 تضافرت مع عجز النظام عن إيجاد صيغة مقنعة لخلافة رئيس طاعن في السن فسقطت ديكتاتورية يمين الوسط الساداتية – المباركية. وجاء محمد مرسي ليتظاهر بالبراغماتية والوسطية لتأسيس ديكتاتورية تدعي الوسطية وكل مؤهلاتها لدى المجتمع الدولي هو تنازلها عن التوجه الوطني لصالح العولمة واستعدادها للمضي قدما على طريق الليبرالية الاقتصادية دون حذر .ولنتذكر أن ادعاء الوسطية عند محمد مرسي لم يكن لينطلي على أحد إلا بالمقارنة مع قوى كان لا يجب أن تكون موجودة على الساحة السياسية أصلا مثل قتلة السادات وقادة العنف في التسعينات أو مثل السلفيين الذين يعرفون عن القرون الوسطى أكثر بكثير مما يعرفون عن مصر المعاصرة.أضف لذلك أن مرسي رسم لنا ملامح «وسطية» ليس على يمينها أويسارها أحد في زمن لن يقبل إلا بتعددية حقيقية. بعد هذا التساقط ،عبر ستين سنة ، لتجارب اللاعب الوسطي الأوحد: من الوفد القديم في زمن مصطفى النحاس ، إلى الاتحاد الاشتراكي ، إلى الحزب الحاكم في تعددية السادات – مبارك الشكلية ، إلى محاولة الإخوان تأسيس الديكتاتورية بادعاء الوسطية ، بعد هذا كله هل تبقى السياسة المصرية أسيرة وسط براغماتي ينحرف مرة إلى يسار الوسط ومرة إلى يمين الوسط دون أن يكون على يمينه او على يساره أحد؟ كل من يحاول تأسيس ديكتاتورية جديدة بادعاء الوسطية البراغماتية الوطنية لن ينتهي به الأمر إلا إلى إضافة مزيد من الركام إلى المشهد السياسي ،ولو بعد حين.لابد من تنوع يقوده يسار الوسط ويمين الوسط المتناوبان على السلطة.لكن كيف يحدث ذلك؟ أرى أحزابا تترنح وقيادات تحترق وأسماء لمعت طويلا وهي الآن تتبخر وتسقط من الذاكرة الوطنية ،والكتلة الوحيدة الفاعلة خارج مؤسسات الدولة ،وهي حركة تمرد، التي كان لها الفضل الأول في فتح الطريق أمام حركة الشعب والجيش ليست سوى مادة خام تتألف من أقل من ستة آلاف مناضل لا نعلم مدى تنوع توجهاتهم.فهل يظهر اليمين واليسار عبر إعادة ترتيب للقوى القديمة أم يقود شبابنا الحركة باتجاه تحويل طائر الحرية المصري إلى طائر بجناحين، مثل كل الطيور التي خلقها الله ؟ هل يشهد هذا الجيل استعادة حورس لجناحيه أم يبقى كم كان، جسدا وسطيا غير قادر على التحليق؟ لا أدري؟