تصوير موسى محمود - يعترف بأنه لم يستطع الإخلاص للشعر، وهكذا توقف بعد ديوانه الوحيد "الحب.. يسألكم المغفرة" - توقف.. ليبدأ مسيرة أخرى، طاف فيها أركان العالم، باحثاً عن المكبوت داخله - فكأن الترحال رحيل إلى نفسه.. وبنفس القدر، بحث عن الوجه الحقيقى للآخرين. أحمد هريدى، الفائز بجائزة ابن بطوطة الإماراتية فى أدب الرحلات عن كتابه "رحلة إلى تونس البهية"، يؤكد فى هذا الحوار أن أدب الرحلات شهيد فى مصر. كيف جاءت الجائزة عن عملك "تونس البهية"؟ اختارت دار "ارتياد الآفاق" الإماراتية المتخصصة في طبع أدب الرحلة المعاصرة كتابي "تونس البهية" للفوز بالجائزة الأولى فرع أدب الرحلات التي يطلق عليها جائزة ابن بطوطة، ويأتي هذا الكتاب بعد "رحلة إلى المغرب" وسيليه كتاب عن "الجزائر" ضمن سلسلة أدب الرحلات التي أكتبها عن المغرب العربي، حيث وجدت أن تلك الدول تعرف عنا الكثير، فبينما نحن في مصر وبعض دول المشرق العربي لا نعرف إلا القليل عنها، وكنت قد ذهبت إلى تونس أكثر من مرة قبل الثورة التونسية، وفي المرة الثانية أحسست بأن شيئا ما سيحدث، وشاهدت الناس قبل خروج الرئيس الهارب يملؤها الخوف والرهبة، وهذا ما ظهر في الفصول الأخيرة من الكتاب، مما يدفعني أن أزور تونس مرة أخرى لأكتب عن هذا البلد الشقيق بعد ما طرأ عليه من أحداث وأصور مشاعر الناس بعد الثورة، كما سأضع ضمن خططي الذهاب إلى ليبيا أيضًا لأكتب عنها. هل الكتابة عن دولة ما لابد أن تكون لها قصة معك؟ كل كتاب صدر لي في أدب الرحلة له قصة عاطفية، مثلا: قبل كتاب أمريكا استرشدت بما كتبه أنيس منصور عنها، وكذلك الكتابات الأمريكية "الرسمية" التعريفية بها، فقررت السفر إليها دون دعوة من أحد، وسافرت بجواز سفر "مهندس حر" وليس كصحفي بمجلة الإذاعة والتليفزيون، بعد اقتراضي أموالا وضعتها في البنك باعتباري رجل أعمال، وتنكرت في صفة عامل في مطعم فاخر أسفل إحدى ناطحات السحاب في مدينة نيويورك وكنت أقوم بتوصيل الوجبات إلى موظفين بنفس البناية، واكتسبت خبرة فى التعامل مع جنسيات عديدة، وطوال الفترة التي عشتها في نيويورك لاحظت كل شيء من حولي، وعرفت الوجه الآخر "القبيح" لأمريكا، وعدت إلى مصر وكتبت ست عشرة حلقة بمجلة "الإذاعة والتليفزيون" فلاقت ثناء كثيرا من الكتاب، ما شجعني على المضي في كتابة أدب الرحلات. على ذكر أنيس منصور.. ما تقييمك لكتاباته عن الرحلات التي قام بها؟ أنيس منصور له الفضل في تعريف القراء بجمال وأهمية السفر عن طريق سفرياته العديدة التي أصدر عنها كُتبا، لكن الكتابة عنده أشبه بتحقيق صحفي لا يدخل عميقا في روح وتاريخ وجغرافية وإنسان المكان. لماذا لا نهتم بأدب الرحلات في العالم العربي؟ هذا النوع من الأدب لا يندرج ضمن أي جائزة مثل باقي أنواع الإبداع الأخرى، وأعتبره في مصر "أدب شهيد"، فيما يلقى اهتمام الدول الأجنبية ، فلا يكاد كاتب كبير حاصل على جائزة نوبل إلا وله ثلاثة كتب على الأقل في أدب الرحلة، وكأن كل كاتب يحس داخل نفسه بأنه لن يكون أديبا إلا إذا اقتحم هذا المجال من الكتابة، أما في العالم العربي فهناك عدم اهتمام به ، سواء الكُتاب أم الدوائر الرسمية ، التي لا تشجع عليه، بدليل أنه لا يدخل ضمن جوائز الدولة، ولأن السفر يحتاج إلى أموال.. ففي الخارج هيئات ومؤسسات ثقافية وصحفية تمول الكُتاب للسفر على أن يُذكر اسم الجهة الممولة في سطر بنهاية الكتاب. وتكاد تكون الإمارات هي الوحيدة التي تهتم بأدب الرحلات من خلال جائزة ابن بطوطة التي ترصدها دار "ارتياد الآفاق" تشجيعًا للكُتاب المعاصرين في هذا النوع الأدبي، وفي نفس الوقت تعيد طبع كتب العرب القدامى في أدب الرحلة مثل: ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما. هل عرف العرب هذا النوع من الأدب قديما؟ وهل هناك اختلاف بينه وبين ما يكتب في العصر الحديث؟ طبعا كان للعرب وللمسلمين في القرون القديمة فضل كبير في الكتابة واكتشاف القارات، بالرغم من صعوبة المواصلات حينذاك، وكانوا يقومون بالرحلات لأغراض مختلفة: التجارة والحج والاكتشاف، وكانوا يصفون طريق الرحلة لصعوبته ومشقته، عبر الصحراء وعلى ظهور الدواب ، فالرحلة كانت تمتد لشهور ، فيصف الكاتب ما يقابله من بشر ومناخ ونباتات وأشجار ومفاجآت كجزء علمي وجغرافي إلى أن يصل إلى المدينة التي يسافر إليها، ويكتب بعين المكتشف والمسافر، وكانت الرحلة تستغرق أعواما، أما الرحلة المعاصرة فلا تستغرق وقتا كبيرا، يستخدم فيها الكاتب كل أدواته لاكتشاف رحلته وهي ليست مجرد وثيقة معرفية بالمكان أو جغرافيته، بل يقدم وثيقة أدبية يتضافر فيها العنصر الجغرافي مع الأدبي والسرد والمكان الذي جاء منه والآخر الذي أتى إليه، وكثير من الكتابات يتضمن الشعر، وكذلك الرواية والحوار في نسيج السرد، فكل أنواع الفنون والعلوم والثقافات تتضافر في أدب الرحلات الذي يجمع النقيضين: الحدث الواقعي وانعكاس هذا الحدث على وجدان الكاتب وعلى معارفه وثقافته. لماذا كرست كل جهدك لأدب الرحلات برغم أنك بدأت شاعرا وصدر لك ديوان، كما شغلت موقع رئاسة تحرير مجلة "الشعر" من قبل؟ نعم صدر لي عام 1970، ديوان "الحب يسألكم المغفرة" بعده عملت وقفة مع النفس ووجدت أن الشعر فن عظيم يتطلب إحساسا عظيما، وبما أن حياتي لم تمكني أن أخلص لهذا الفن وأعطيه كل وقتي واهتمامي تركت المجال لآخرين، وأعتقد أن المرء إما أن يكون شاعرا متميزا أو يصمت، أو يكون ضمن مجموعة ضخمة من الذين يكتبون الشعر، وهم شعراء بدرجة "نصف" شاعر، وربما وجدت في أدب الرحلة التعويض عن توقفي عن كتابة الشعر، فأجد نفسي من خلال أدب الرحلات "أنثر" ما بداخلي من شعر مكبوت لم يخرج بشكل قصيدة في داخل نسيج الكتابة بأدب الرحلة. أدب الرحلة هل ينتمي إلى الأدب أم العلوم الإنسانية؟ ممكن أن يكون أدب الرحلة الذي تميز به العرب القدامى أن يدخل ضمن علوم الإنسانيات، لأنه يشمل الكتابة عن النبات والصحراء، كما أن به جزءا يقترب من العلم ووصفه للطرق، لكن أدب الرحلة يظهر أكثر في الكتابات المعاصرة التي بدأت في نصف القرن العشرين بكتابات متفرقة. ما الخلاصة التي خرجت بها من كل بلد زرته؟ وأنا أكتب "رحلة المغرب" قرأت كتابا للأديب "إلياس كانيتى" بعنوان "مراكش" وهو أحد الأدباء الذين كتبوا في الرحلة عن مراكش كل ما أخذته عنه مجرد عبارة فقط، هذه العبارة وجدت بداخلي صدى ، فاستوقفتني واستثارت بداخلي أحاسيس بالواقع المراكشي.. وهناك مقولة إن الشخص عندما يسافر إلى بلاد كثيرة يتغير أو تطاله صفات أخرى عن المكان الذي ولِدَ فيه، وأقول لأصدقائي إنني سافرت كثيرا وأصبحت أكثر انفتاحا وسعة أفق، وكان السفر بالنسبة لي يمثل علاجا من الانغلاق وضيق الأفق وهذا لا يتعارض مع أخلاق الصعيد الذي جئت منه، فاكتسبت سعة أفق، وبالتالي معرفة نفسي ومصر أكثر.. وهناك مقولة للشاعر الإنجليزي "ت.إس. إليوت" يخاطب الناس: "ارتحلوا فإنكم لن تعودوا من الرحلة كما كنتم قبلها"، وفي القرآن آية "قل سيروا في الأرض.." وهناك آيات أخرى تحض على السفر.. وسفري إلى دول المغرب جعلني على يقين بأننا كشعوب عربية من أصل واحد، فهناك رحلات من الجزيرة العربية إلى مصر عن طريق البحر الأحمر إلى الصحراء الغربية، إلى مصر وتونس والمغرب، والرحلة الهلالية . وجدت في تونس مدينة صغيرة تسمى "هوارة" وأعتقد أن أهل الجزيرة العربية هم أجداد الذين يعيشون في "هوارة" المصرية والتونسية، وفي مصر أيضا توجد بالقرب من الفيوم قرية يطلق عليها "تونس" ربما جاء بعض التونسيين إليها فسميت كذلك، مما يؤكد أن الدول العربية متشابكة. بصفتك مترجما.. ما الذي يحكم اختياراتك في الترجمة.. سواء كانت أدبية أم سياسية؟ هناك اختيارات برغبتي ، وهي الأدبية، وأخرى سياسية ترتبط بطبيعة المكان الذي أعمل به مترجما في صحيفة عربية، فترجمت ما يزيد على عشرة كتب سياسية، لكن الأقرب إلى قلبي هي الروايات الأدبية التي حصل أصحابها على جوائز عالمية مثل: رواية "شعب يوليو" للروائية "نادين جورديمر" من جنوب إفريقيا حاصلة على جائزة نوبل، و"ميراث الخسارة" للروائية الهندية "كيران ديساي" ورواية "زهرة الكركديه الأرجوانية" للكاتبة النيجيرية "تشيما ماندا أديشي"، واختياري لهذه الروايات من مدن لم أسافر إليها من قبل، كأنني وأنا أترجم رواية تدور أحداثها في جنوب إفريقيا، أشعر بأنني أسافر عبر صفحات النص الإنجليزي الذي أترجمه دون الذهاب إليها بالفعل، وفي رواية الكاتبة الهندية راودني نفس الشعور، فضلا عن تقديمي للقارئ العربي أدبا غير معروف ، وأتمنى من الزملاء المترجمين أن يوجهوا أنظارهم أكثر للأدب الذي لم نقرأه من قبل، لأننا قرأنا كثيرا الأدب الغربي وعلينا أن ننظر إلى آداب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وننقل آدابها إلينا مثلما فعل أجدادنا بترجمة آداب أوروبا وأمريكا الشمالية. سيرة ذاتية تخرج أحمد هريدي في كلية الهندسة، وعمل لفترة في صيانة الأجهزة الإلكترونية في جهاز التعبئة العامة والإحصاء، ثم مهندس إرسال إذاعي في أبو ظبي، ومارس الكتابة الصحفية أثناء المرحلة الجامعية في مجلة روز اليوسف وصدر له ديوان "الحب يسألكم المغفرة" وهو طالب أيضا. تحول "هريدي" إلى الكتابة في أدب الرحلات حين أصدر كتابه "أمريكا سري جدا" ثم توالت كتبه في هذا الاتجاه: "وردة الشمال: أيام في استوكهولم، وهبة الجبل: رحلة إلى لبنان" فضلا عن ترجمته لأكثر من عشرة كتب سياسية والعديد من الروايات والقصائد الشعرية التي يستهويه ترجمتها، عوضا عن انقطاعه عن كتابة الشعر.