حدثتني نفسي وأنا الخبير بها، مالي أراك جزعاً؟ ألم تكن أشد من اليوم تجلداً وصبراً، مالي أراك اليوم ضعفاً على ضعف حتى تكاد تتهاوى؟ وما برحت تلك النفس تؤنبني، وكأني خصمها إذا ترقرق الدمع، أو اختلت الكلمات والمعاني، أو انصرفت عن عالمي وكأني في ساعة المال ولحظة النهايات التي لا ريب فيها. فهذا اليوم مُرّ في فمي، تأتي الذكرى بين زوايا العتمة، وتباريح السفر.. لا الدمع يكفكف آلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الرفاق يجلب شيئاً من السلوى. للموت جلال أيها الراحلون، ولنا من بعدكم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تُبكي.. حتى يقدم بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحداً تلو الآخر.. "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". هذا الصباح مُرّ في فمي، كل ما حولي يوحي بالانكسار، حتى الكلمات تحتبس في حلقي، فأستعيدها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة الممدود بلا أصدقاء. كل ما أعرفه الآن أن الموت له مرارة وألم، نحن وحدنا من تمتد بهم الحياة، نبكيكم وتسيل دموعنا في وداعكم، ونعجز أحياناً حتى عن تشييعكم لمثواكم الأخير، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم. نحن إذن من يجزع، لأن الراحلين انطفأت شموعهم في حياتنا، ولأن رحيلهم إعلان كبير بأن قطار العمر ماض، والأيام متتالية والقدر محتوم.. ولكن للموت جلال أيها الباقون. أنا لا أشكك في أن للموت رحمات بالأحياء قبل أن يكون برداً وسلاماً على الراحلين، فمن رحماته أنه يدرأ الشر والظلم عن نفوس اعتادت القلق من حتمية النهايات، ويستعيد نفوساً أخرى لشخوص بذلوا وأعطوا وتسامحوا، لأنهم مدركون أنه حق لا ريب فيه، وهي النفوس التي أقبلت على الخير، وإلا فكثير من القلوب خلقت من صخر أو حديد. لا ذاكرة الموت تنفعهم ولا انحدارهم من قمة العمر لأسفله يوطن نفوسهم على بذل الخير أو كف الظلم والأذى. أظن أنه لا يعني من يقرأ هذه الأحرف أي صديق أرثي اليوم، لأنه قد لا يعرفه، ومن يعرفه حق المعرفة قلة من أصدقائه ورفاقه ومحبيه، وأنا حتى اللحظة لم أكتب رثاء في صديق، إنما كنت أرثي الأحياء قبل الأموات، والباقين عوضاً عن الراحلين. على الرغم من انتظار خبر رحيله منذ تعرضه لحادثه المفجع إلا أنني شعرت بأن رحيله مفاجأة مُرّة في الحلق، وانحساراً لمدد الصحبة الجميلة، وانطفاء لومضة نبل إنساني، وإذا اجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها.. وفي هذا عزاء لي وأي عزاء!! وأني كلما خطرت على نفسي خواطر الرحيل، أو خطر ببالي راحل ترك الدنيا أحسن مما وجدها، أجدني أتذكر الصديق أيمن مصطفى وأستعيد عبارته "يا عم محمد خليها على الله، محدش بياخد أكتر من نصيبه"، وأشهد الله أن أيمن ترك الدنيا أحسن مما وجدها، فلم تكن حاجته وضعف حيلته في أول حياته ومراحل الإنهاك التي مر بها أو مرت به، إلا دافعاً جميلاً لصنع الخير عندما أدركته الدنيا.. وإن فيه خصلتين أقدرهما أكبر التقدير "كرامة النفس، ونُبل المقصد". لقد رحل أيمن عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها، فإلى أن نلتقي يا أصدق الأصدقاء. و"إنا لله وإنا إليه راجعون"