نعلها المتآكل يمرر لقدميها أكثر مما يمنع.. قتامة ملابسها تعكس سواد أيام عاشتها، ويزداد الأمر تعقيداً مع خطوط العجز التى تكثر تحت العينين والجبهة. تنظر بتأمل إلى بقايا أسلاك شائكة وضعها الأمن خلال أيام الثورة؛ منعاً لوصول المظاهرات إلى قصر عابدين.. تربط بين الأسلاك وحياتها، فالنظام السابق لم يضع تلك الأسلاك فقط حول المبانى المهمة بل حاصر بها حياة الفقراء لتبقى دنياهم شائكة. ها هى بعد عام ونصف العام تقف أمام القصر بنعلها المتهرئ، فلا ثورة أفلحت فى حل معاناتها ولا أسلاك شائكة منعت البسطاء من دخول قصر الرئاسة. لم يقبل أبناؤها الخمسة أن يأتوا لكى يعرضوا مظلمتهم بديوان المظالم "مكسوفين.. بيقولوا هنروح نشحت"، قالت بلامبالاة وكأنها تقبل حمل لقب متسولة فى سبيل حل مشكلتها. ماجدة زكى شحاتة، التى تؤكد ملامح وجهها تخطيها الخمسين عاماً، تعيش مع زوجها وأولادها الخمس فى مسكن بنظام الايجار الجديد بمنطقة الزاوية الحمراء بالقاهرة، تدفع 500جنيه شهريا بخلاف فواتير المياه والكهرباء والغاز. أبنائها فى مراحل التعليم المختلفة وزوجها يعمل سائقاً "يوم بيشتغل وعشرة لأ.. بعد الثورة الدنيا نامت ومابقاش فى شغل" تشرح "ماجدة" حال زوجها وحالها بالتبعية. الخجل منع أولادها من اصطحاب والدتهم لديوان المظالم الذى انشائه الرئيس محمد مرسى لتلقى شكاوى المواطنين، وبعد يأس " ماجدة" من اقناع الابناء باهمية المحاولة حتى ولو انتهت بالفشل، قررت هى الذهاب وحدها. ذهبت قبل أيام إلى ديوان المظالم بقصر القبة وقدمت شكواها التى تتلخص فى طلب وحدة سكنية تجمعها بأسرتها بدلا من عناء "الايجار الجديد"، ثم قررت أن تقدم نفس الشكوى بديوان المظالم بقصر عابدين أملاً فىزيادة فرصة تحقيق طلبها. تقول:" الايجار الجديد بلاء على المواطنيين فعندما تعاقدت انا وزوجى على الشقة قبل خمس سنوات كنا ندفع ب225جنيه فقط شهربا وبعد خمس سنوات أصبحنا ندفع للمالك 50جنيه أى أن الزيادة أكثر من الضعف". الشقة التى تعيش بها "ماجدة" وأسرتها ضيقة للغاية وفى الدور الأرضى وتعانى من طفح دائم للمجارى، وتكمل:" يعنى رضينا بالهم والهم مش راضى بينا". علاج لابنتها المعاقة عبائتها السوداء ونظراتها الغاضبة لا من شخص محدد بل من الحياة، تحتم ضرورة التعرف على مشكلتها التى جاءت لعرضها على ديوان المظالم. المعاناة جعلت ملامحها تبدو أكبر من فى مثل عمرها.. تحمل طفلة صامتة، ومع الوقت تكتشف ان صمتها ليس حدثا عرضيا بل أمر دائما بسبب المرض. تزوجت ثوانى فكرى التى لم تتجاوز الأربعة والعشرين عاماً قبل أربعة أعوام.. وبعد معاناة البحث عن مسكن، استقر الأمر بها وزوجها للتنقل بين منزل أسرتها فى منطقة الويلى وأسرته بحى النهضة. معاناة التنقل وعدم وجود مسكن مستقر، تعتبر ترف فى حاله " ثوانى" فرضيعتها التى لم يتجاوز عمرها الستة أشهر تعانى من تراكم مياه على المخ وتحتاج لعملية زرع قرنية بالعين اليسرى واجراء عملية قلب مفتوح، إلى جانب ولادتها بشفاه أرنبية ودون أحبال صوتية، بالاضافة إلى تقوص ساقيها. زوجها يعمل نجار مسلح ولا سبيل لعلاج طفلته إلا فى المستشفيات الحكومية، لكن الامر معقد أيضا فصحيح أن العمليات يتم اجرائها مجانا لكن الادوات المستخدمة فيها يتكفل بها أهل المريض، وتشرج ثوانى:" مثلا ابنتى تحتاج فى عملية ازالة المياه المتراكمة على المخ إلى صمام تكلفته 3500جنيه ولابد أن نوفر نحن الصمام لا المستشفى". محاولات عدة قامت بها ذات الأربعة والعشرين عاما لانشاء كشك لتساعد به زوجها فى علاج ابنتها، لكن تجاهل المسئولين بمحافظة القاهرة هو ما لقته "ثوانى"؛ فلم تجد سوى ديوان المظالم لتتظلم مما حل بها وتطلب علاج ابنتها وانشاء كشك لها. هدموا بيتها ليلاحقها التشرد خصلات بيضاء تخرج خلسة من خمارها.. أسنانها متأكلة وبعضها غادر منذ زمن..بساطة ملابسها تلاحق حديثها فيخرج عفوياً ليحمل مأساة سيدة تسير بخجل فى عقدها السادس. قبل الثورة بأربع شهور كانت منصورة منصور تعيش فى بيتها بمنطقة منشية ناصر فى هدوء مع بناتها وأزواجهن وأحفادها. حياة فقيرة لكنها تسير دون الحاجة لمساعدة أحد، إلا أن لا شىء يبقى هادئاً حتى ولو كان فقيراً، ففجأة وجدت "منصورة" نفسها مشردة مع بناتها وأسرهن بعد هدم البيت بحجة انه يدخل فى اطار المناطق العشوائية وتقول:" الموضوع مالوش دعوة بالعشوائيات، فى شركة استثمارية هتعمل مشروع ومحتاجة الارض تبنى عليها فأخدوا البيت وهدوه". السيدة الستينية تؤكد انها اشترت البيت قبل أعوام من مالكه بمبلغ 28ألف جنيه؛ لذا فهى لا تجد مبررا لهدمه، ولا جدوى من الشكوى للمسئوليين "ففى بلدنا نشكو دون مجيب". انتقت العجوز التى تعمل عاملة نظافة باحدى الجامعات الحكومية وتحصل على راتب قدره 550جنيه شهريا، ببناتها إلى مسكن بمنطقة الهرم، وبعدما نجحت الثورة تخيلت أن ستستعيد بيتها لكن سرعان ما تبدد تخيلها. تطلب "منصورة" من رئيس الجمهورية توفير سكن ملائم لها ولأسرتها بدلا من بيتها الذى تم هدمها ظلماً. تدفع ثمن أخطاء هيئة التعمير تجلس بجوار أختها تستظل بالأشجال المقابلة لمبنى قصر عابدين.. كلهما ترتدى النقاب الأسود لتزداد حرارة الشمس مع قتامة ملابسهما. قبل أعوام قدمت صباح جابر فى مشروع الاسكان القومى بمدينة 6اكتوبر التابع لهيئة التعمير والاسكان للحصول على وحدة سكنية، ودفعت 6ألاف جنيه عند التعاقد إلى جانب ايجار قيمته 515جنيه كل ثلاثة أشهر أى بمعدل 165جنيه شهريا، لمدة 18 عام كام ينص التعاقد. ولكن عند تسلم "صباح" الوحدة السكنية فوجئت بمطالبة الهيئة لها بدفع مبلغ 3800جنيه بحجة أن الصرف الصحى للعقارات يحتاج للتصليح تقول:" العيب فى المقاول المتعاقد مع الهيئة الذى صمم صرفا صحيا حدث به عطل قبل تشغيله"، وتتساءل:" لماذا أتحمل خطأ المقاول.. أنه أشبه بلى الذراع ولن أقبل ذلك". السيدة المنتقبة التى تعمل بهيئة نظافة الجيزة تؤكد أن الأموال التى كانت تملكها دفعتها كمقدم للشقة وليس لديها ما يجعلها تتقبل الوضع القائم لذا جاءت لديوان المظالم مصطحبة أختها لتطلب استثنائها من دفع المبلغ. إتاوات البلطجية سعادة يصحبها اعتقاد ببدء أعوام الراحة امتزجت بخلد "مها حسين محمد " عندما علمت بقرب استلامها مسكن من محافظة القاهرة بعد ستة أعوام من السعى للحصول عليه، فأخيرا ستترك الحجرة الضيقة بمنطقة السيدة زينب التى تعيش بها مع بناتها الأربعة. لكن السعادة والاعتقاد تبددا داخل نفس "مها " مع معرفة ان المسكن يقع بمنطقة النهضة بطريق مصر الاسماعيلية الصحراوى، فالمنطقة ينتشر بها البلطجية وتجار المخدرات كما تؤكد. الامر لا يقتصر على الخوف من الخارجين عن القانون فتقول مها:" البلطجية فرضوا علينا إتاوة 100جنية شهريا لحراسة الوحدات السكنية، هى وبناتها لم يستطعن العيش فى تلك المنظقة لذا ظلوا بالحجرة الضيقة بالسيدة زينب خوفاً على حياتهن وهربا من اتاوات لا يقدرن على دفعها. "مها" التى توفى زوجها قبل 14عاما ولديها أربع بنات لايمكنهم العيش فى مثل تلك الاجواء، تحصل على معاش من وزارة الشئون الاجتماعية قدره 205جنيه، ولا مجال للحديث عن امكانية تدبير المعيشة وبناتها جميعهن فى مراحل التعليم المختلفة. "أقولك ايه.. الجامع بيدنى فلوس علشان أصرف على بناتى " بخجل يكسوه مرارة الحاجة قالت "مها". الارملة جاءت لديوان المظالم راغبة فى عرض مشكلتها لعل محافظة القاهرة توفر لها مسكن فى منطقة أخرى ، أو يستطيع رجال الشرطة توفير الامن فى "النهضة" لتستطيع العيش دون تهديدات البلطجية. معاناة المهاجرين لسيناء هاجرت مع زوجها قبل 10 سنوات من محافظتها المنصورة إلى منطقة بئر العبد بشمال سيناء بعدما إنهار العقار الذى كان يسكنان به. تعانى ألطاف محمد وزوجها وابنائهما الأربعة من معاملة البدو لجميع المهاجرين كلاجئين، إلى جانب الخدمات السيئة من سوء المواصلات العامة وندرة المياه. تشكو ألطاف دبلوم تجارة للرئيس من تجاهل سيناء، إلى جانب طلبها بتوفير فرصة عمل لها لمساعدة زوجها بعد غلاء المعيشة.