أعرف الكثير عن خفايا ماسبيرو، كما عرفت المعرفة اللازمة عن مبني الإذاعة في شارع «الشريفين» علي عهد الصبا والشباب في بداية عملي الصحفي في الستينيات، وما عرفته عن «الخفايا» في «إمبراطورية ماسبيرو» عنوان مقال الصديق الشاعر الكبير فاروق شوشة يوم الأحد 20 مارس في الأهرام يتجاوزه بكثير ما عند «شوشة» صاحب قرابة النصف قرن من العمل صباح مساء معظمها كان في هذه «الامبراطورية» الخفية!، أجملها شوشة في وصف جامع لها بأنها كانت «غمة» انزاحت، ونجاة من غوص في «مستنقع»!، زاده في كل ذلك «وهم لتغيير مسار الريح، أو النطق بكلمة صدق أو حق أو عدل أو الحلم بيوم يرث التركة فيه بدلاء»!، ومن قرأ مقال فاروق شوشة الذي استعرض فيه «الغمة» التي انزاحت عن صدره بعد وداعه العمل في هذه «الامبراطورية» يشعر بأنه أمام شهادة بالغة الفظاعة علي منشأة لم تتأسس علي تقوي!، بل قامت علي أسس تليق حقا بنظام سياسي، والإعلام المسموع والمرئي عموده الفقري!، تتولاه طائفة من الناس اختيروا بعناية فائقة ليقوموا علي أمره رئاسات وقيادات تؤمر بتوجيهات عليا فتزايد علي بعضها في التنفيذ بالمبالغة في الكذب والنفاق واللؤم والكيد لمن تصطدم ضمائرهم بفحش ما يجري!. وفي هذا الصدد وحده يشهد شوشة علي مملكة ماسبيرو فيقول: «اكثر عمرك راح هناك، تشهد فيه وجوها تمضي بعد وجوه، ومرايا تتكسر من بعد مرايا، وأكاذيب اختلطت بوشايات وحكايا عبثية، وتري أقزاما كانت تتزيا بثياب وزير أو مسئول- أدني أو أعلي- تتنافس في مملكة الشر، وتمضي في الجبروت، وسياسات تتقلب عبر عهود طالت حتي فاحت منها تلك الرائحة الملعونة والقوم أساتذة في الزيف وفي التضليل، ومحو عقول الناس، وغرس بذاءاتهم فينا، فالجبن القائم حكمة، والعجز عن التفكير وصنع قرار أي قرار وعي ورشاد، والعهر الماثل فينا ليل نهار فضل لا ندريه، وركوع الوطن ذليلا خير من خطر داهم، وهوان الناس وسحق كرامتهم شرف وسيادة!، وهكذا أثبت فاروق شوشة أنه صاحب هذا الصبر المذهل علي هذا كله الذي عاشه وشاهده في «مستنقع ماسبيرو»، فلم يستطع كاتب هذه السطور أن يدخل هذا المبني العجيب لمدة زادت علي ثلاثين عاما اشمئزازا مما عليه داخله من الفجور، والانحطاط الأخلاقي الذي فشا فيه، رغم صلة عمل لي بالمجلة التي تصدر باسم هذه الامبراطورية، بل حرصت علي ألا تكون لي أية ارتباطات بوسائله المرئية والمسموعة مما يقوم في العادة بين المثقفين والكتاب بالمبني!، بل في حالة اعتذار دائم حتي اليوم عن المشاركة في أي «ثرثرة» ممن درجوا علي الدعوة لذلك، وقد نجوت من سنوات من الارتباط بمجلة المبني!، التي كانت في كل عهودها نموذجا حيا للامبراطورية طالما بقيت تحمل صور أباطرة المبني من كل شاكلة!، «تتغول فيه جوقة طبالين وزمارين تتوحش عبر رجال جوف، أشباه رجال، تتباهي بالجهل الفاضح والإغواء، تتدافع في خدمة سادتها، متخلية عما يستر عورتها، وتري في مسعاها شرفا وبطولة، وهناك كثير- أعرفهم- منهم من ماتوا مقهورين ومنبوذين، ومنهم من غادر أو غودر، ومنهم من عدل درب مسيرته في اليوم الموعود، ففاز ببعض سلامته ونجا، ومنهم من يبقي حتي اليوم، وقد قبض علي الجمر، فلعل بظهر الغيب يجئ صباح مختلف، يقتلع السفلة والأشرار، ويزيح الطغمة والأوزار، ويهيئ للباقين علي أمل البشري أرضا أخري وسماء» هكذا يري فاروق شوشة المشهد القائم الذي لا يزال، وإن كنت أشك في أن الغيب يخبىء لهذا «السامر» الذي تقادم العهد عليه وهو منصوب ما يفرض عليه الانفضاض إلي غد أفضل!، ويتطهر فيه المبني من عفنه وقروحه التي تقيحت!