في فرنسا، لم يكن هذا التصور حاضراً لدى متطرفي اليمين واليسار ودوائر الديغوليين الوطنيين التقليدين فحسب، لا بل كان حاضراً عند غالبية الناخبين الاشتراكيين الذين قرروا ازدراء قيادات حزبهم المؤيدة لفكرة الاتحاد الأوروبي. \r\n لم تخمد نيران هذا السجال بعد. بل على العكس، ازداد اضطرامها باقتراب موسم الانتخابات الرئاسية الفرنسية كما حدث في الانتخابات الألمانية. \r\n يبدو هذا الأمر شديد الوضوح في صفوف الاشتراكيين الفرنسيين، وخصوصاً مع اقتراب مؤتمر الحزب في نوفمبر/ تشرين الثاني بكامل زخمه، إذ عاد إلى الظهور صراع قديم تعود جذوره إلى تأسيس الحزب. صراع بين رؤيتين: أولاهما الرؤية الاشتراكية الديمقراطية التي تفضل اقتصاد السوق مع السعي لتلطيف الآثار السيئة له؛ وثانيهما وعلى النقيض تماماً الرؤية الراديكالية التي تمجد "مقاطعة ثورية للرأسمالية". \r\n يعتقد المرء بأن هذا السجال قد حسم لمصلحة الرؤية الإصلاحية إبان اختفاء العالم الشيوعي وفشل سياساته التجميعية. ولكن الأمر المفاجئ الذي ظهر في الشهور الماضية كان في دعم جزء مهم من الناخبين الاشتراكيين وقيادات حزبهم للتغيير الراديكالي. \r\n علاوة على ذلك، فقد اتهم جزء كبير من اليسار المعادي لليبرالية المؤلف من الشيوعيين وعلماء البيئة والنقابيين ومؤيدي حركة آتّاك الإصلاحيين بتهميش أنفسهم لمصلحة العولمة لا بل والدفاع عن التغيير الراديكالي للاقتصاد والمجتمع. \r\n يعكس النجاح الإعلامي الباهر الذي حققه أوليفير بيسانسينوت البالغ من العمر 31 عاماً الذي يمثل القسم الأكثر تصلباً من التحالف الشيوعي الثوري التروتسكي قوة هذا الحلم. وبعد حصوله على 4% من أصوات الناخبين من الدورة الانتخابية الرئاسية الأولى في عام ،2002 يعتبر بيسانسينوت تبعاً لاستطلاعات الرأي الشخصية الثامنة والثلاثين الأكثر شعبية في فرنسا. \r\n يتمثل الأمر المثير للاهتمام بأن النقاشات التي يثيرها الراديكاليون المعادون للعولمة تجد لها صدىً في بعض المبادرات اليمينية. يؤيد الرئيسان جاك شيراك ونظيره اليساري لولا دا سيلفا رئيس البرازيل فرض ضريبة على تذاكر الطيران يخصص ريعها لتمويل الحركة التنموية للبلدان الفقيرة، وفي نفس الوقت اقترح فرانسوا بايرو المعتدل فرض "ضريبة توبين" التي سميت تيمناً بمخترعها جايمس توبين، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل على التبادلات المالية، بحيث يدعم ريع هذه الضريبة القضايا الاجتماعية المهمة. \r\n كيف لنا أن نفسر هذا الانبعاث الراديكالي الذي يبدو أنه يتجاهل الحقائق السياسية الأوروبية والعالمية؟ \r\n قد يعتقد المرء بأن هذا الأمر عائد إلى التقاليد السياسية الفرنسية في اليمين واليسار والتي تفضل المبادئ الخالصة على التسويات العشوائية. أضف الى ذلك شك الفرنسيين الفطري بالليبرالية وبالفعل، فإن الفرنسية هي اللغة الوحيدة التي توحي كلمة الليبرالية فيها بمعنى ازدرائي شك مصحوب بالاعتقاد المتأصل لدى اليمين واليسار الفرنسي بأن الدولة هي المدافع الرئيسي وبامتياز عن المصلحة العامة. وبينما انتشرت البراغماتية بين الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في شمال أوروبا منذ الثلانينينات تلاها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بعد مؤتمر باد جوديسبرغ عام 1957 فضل الاشتراكيون الفرنسيون في خطاباتهم على الأقل الأيديولوجية الثورية دوماً. \r\n لا بد أن يكون هذا التفسير منقوصاً وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الراديكالية المشابهة التي تطرأ على اليسار الألماني، حيث قام تحالف يروج لأفكار راديكالية مماثلة بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الشيوعي السابق المحافظ على قوته فيما كان يسمى بألمانيا الشرقية، والتابعين للحزب الذي يقوده أوسكار لافونتان. فقدت أعداد متزايدة من الناخبين الفرنسيين والألمان إيمانها بالحلول التقليدية أمام الفشل الواضح الذي منيت به الحكومات اليمينية واليسارية في خفض الموجات المتصاعدة لمعدلات البطالة. \r\n وصلت دولة الإعانات التي طالما تصاحبت بحركة إصلاح ديمقراطية اجتماعية واسعة إلى نهاية المطاف لمعاناتها من عجز كبير في الميزانية العامة ومستويات ضرائب غير مدعومة. وبشكل موازٍ عانت الحركة الاجتماعية التي كانت مدعومة سابقاً من قبل دولة الإعانات من انعكاسات حادة. إذ تبشر الأسواق المعولمة بالمزيد من عدم المساواة والفقر وعدم الأمان أكثر بكثير من بشارتها بمنافعها الموعودة في النمو الاقتصادي. \r\n في ظل هذا الجو الضاغط بقلة الأمل تتقلص الأحلام بالمدينة الفاضلة. يبدو أن أحد أهم مقومات المدن الفاضلة يتمحور حول استحالة تحقيقها. \r\n تدعو الحاجة اليوم إلى نقاش أكثر اعتدالاً يدور حول كيفية التعافي من مساوئ السوق وكيفية الدعوة إلى التضامن. هل يجب أن يقتصر دور الدولة على تأمين بيئة مناسبة لقطاع الأعمال الخاص؟ وما مستوى مساهمتها في تأمين الدعم للأمن والتعليم والأبحاث والابتكار والتجديد وحماية الفقراء؟ \r\n لن تكون مثل هذه النقاشات مثمرة إلا إذا أخذت بعين الاعتبار القيود الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها الدول الحديثة. بالفعل، يغدو دور الدول أكثر تعقيداً في ظل الحقيقة القائلة إن قوانين السوق تميل إلى العالمية أكثر منها إلى الوطنية. \r\n وبدلاً من الاستسلام لليأس علينا أن نقف وقفة احترام أمام الاجتماعي الألماني ماكس فيبير؛ إذ آنت الساعة التي يجب أن تسود فيها أخلاق المسؤولية على أخلاق تبادل الاتهامات. \r\n \r\n * مؤلف كتاب "101 كلمة حول الديمقراطية الفرنسية"، هو رئيس الغرفة الاجتماعية لمجلس الدولة وهو بروفيسور متعاقد في معهد الدراسات السياسية في باريس. والآراء الواردة في هذه المقالة هي شخصية ولا تمثل أي رأي رسمي. \r\n