\r\n لقد تغير الكثير منذ عهد النازية. ففي أعقاب الانتصار المتوحش، ثم الهزيمة الدامية التي لاقتها سياسات اليأس الثقافي، شهدت ألمانيا معجزة اقتصادية جعلت منها واحدة من أكثر دول العالم رخاءً وازدهاراً، هذا فضلاً عن ما يقرب من ستة عقود من الديمقراطية المتزايدة الاستقرار.\r\n ومع ذلك فما زالت ألمانيا تحمل آثاراً متبقية من الموقف الذي يرى أن النظم الاقتصادية الحديثة كريهة وبغيضة، وأن فتح كل الحدود أمام "عالم بلا حدود" أمر يثير الرعب والفزع. وللتدليل على هذه النظرة أقتبس هذه الاستعارة المشؤومة التي استخدمها فرانتز مونتيفيرنج رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم في خطاب حديث له: "إن الرأسمالية البحتة والعولمة يستحضران في النفس صوراً رهيبة مروعة. وأسراب جراد الرأسمالية تهدد بالانقضاض على أناس من المسالمين العُزَّل الذين لا يدخرون جهداً في الكد والعمل\". \r\n مما لا شك فيه أن النفور من الاقتصاد الحر والأسواق العالمية ليس مقتصراً على ألمانيا. فهناك إحساس مشابه عمل على صياغة الدوافع التي أدت إلى الرفض الفرنسي، بل وربما الهولندي أيضاً، للمعاهدة الدستورية للاتحاد الأوروبي، والتي رأى البعض أنها تميل ميلاً شديداً نحو "الأنجلوسكسونية" في ما يتصل بليبراليتها الاقتصادية. \r\n والحقيقة أن النموذج الاجتماعي الذي تتباهى به أوروبا أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، ذلك الحلم الدافئ الحميم بعالم تبادر فيه الدولة الخيرة الكريمة إلى رعايتنا والسهر على مطالبنا. فلم يعد هذا العالم الذي يصوره الحلم قابلاً للحياة والبقاء لأسباب ديموغرافية في الأغلب، حيث إن التكاليف المترتبة على تزايد أعداد المطالبين بالمساعدة لا قِبَل لأي دولة بتحملها. \r\n لقد نجح بعض الناس وحتى قليل من أهل السياسة في استخلاص النتائج السليمة من كل هذا. فقد أدركوا أننا في النهاية لابد وأن نعتمد جميعاً على قدرتنا على المبادرة الفردية والجهد الشخصي، ومن هنا فهم ينتهزون الفرص التي تقدمها الأسواق المفتوحة. لكن آخرين في أوروبا يتعاملون مع مثل هذه المواقف وكأنها رسوم متحركة قد تكون مترجمة إلى الفرنسية أو الألمانية: "الاعتماد على الذات أمر ذو أهمية مطلقة، ونحن نعتمد على السياسة في تحقيق هذه الغاية\". \r\n ووراء هذه الاختلافات تكمن تقاليد سياسية وثقافية عميقة في ما يتصل بتحديد دور الدولة في الحياة اليومية. وهنا يتجلى الاختلاف الحقيقي بين الولاياتالمتحدة وبين ألمانياوفرنسا، بينما تتبنى بريطانيا تقليداً مشابهاً يتلخص في عدم الثقة في الدولة وليس الاعتماد عليها. \r\n ويصدق هذا على إيطاليا أيضاً، ولكن على نحو مختلف بعض الشيء. فقد ظل الحزب الشيوعي الإيطالي قوياً ومنتشراً لمدة طويلة، وقد يعود اليسار إلى السلطة من جديد، لكننا لن نجد هناك مثل ذلك العداء الراسخ للحريات التي تشجعها الرأسمالية. أما بولندا فهي دولة أخرى تشهد ازدهاراً للمبادرة الفردية إلى الحد الذي جعل خرافة "السباك البولندي" تشكل صورة مصغرة من التهديدات المفروضة على فرنسا بسبب العولمة. \r\n من المؤكد أن مثل هذه المصاعب النفسية العاطفية لا وجود لها في العديد من دول آسيا التي شهد اقتصادها نمواً كبيراً. أما الهند فقد كان لزاماً عليها أن تتخلص من الجمود الناتج عن نسخة وطنية من الاشتراكية الفابية الحذرة، ولقد نجحت في ذلك بالفعل. والحقيقة أن بعض النماذج الجديدة التي تحاول تحقيق المستحيل بالجمع بين النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي والحرية السياسية، ربما بدأت تنشأ في بعض الدول التي اعتنقت مفهوم العولمة. \r\n إن المزاج المناهض للرأسمالية والعولمة في أماكن أخرى من العالم يشكل مصدراً للهم والقلق. وعلى الرغم من كل شيء فقد ألف فريتز شتيرن كتابه للتحذير من المخاطر التي يفرضها ذلك البغض الرومانسي للحداثة. ويؤدي ارتفاع معدلات البطالة وتخفيض المعونات الاجتماعية إلى تغذية مثل هذه المشاعر، لكنه لا يتسبب في نشأتها، بل يعود الفضل في هذا إلى جذور ثقافية عميقة وراسخة. \r\n وعلى نفس القدر من الأهمية تأتي العواقب المترتبة على مثل تلك المشاعر. ذلك أن الإحساس بالإحباط الناتج عن المشاعر المناهضة للرأسمالية والعولمة، يؤدي بنا إلى تركيبة فتاكة تتكون من أحلام خيالية (مثل "فرنسا للفرنسيين")، ومن واقع متمثل في زعامات متحجرة الفؤاد في اليمين (مثل جان-ماري لوبان في فرنسا)، وفي اليسار (مثل أوسكار لافونتين وحزبه الجديد في ألمانيا). ولن يسفر هذا الصدام إلا عن التضحية بالرخاء والحرية، ما لم تكن الغلبة في النهاية لهؤلاء القادرين على استغلال الفرص التي يقدمها العالم الجديد. \r\n \r\n * عضو مجلس اللوردات البريطاني، والمقال ينشر بترتيب \r\n مع "بروجيكت سنديكيت\" \r\n