من الثوابت التي أقرتها الشريعة الإسلامية الغراء إعطاء الطريق حقه، والالتزام بآدابه، وحق الطريق كما وضحته لنا السنة النبوية الشريفة يقوم على "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". ولقد ابتلينا في هذه الأيام بأناس لا يقيمون للحوار سبيلاً، ولا يدرون للحرمات قيمة، ليس لديهم رؤية قيمية أو أخلاقية، هدفهم فقط تدمير الحياة وقطع السبل وحرق المنشآت والممتلكات الخاصة والعامة، وقتل الأبرياء، والمتاجرة بدمائهم وأعراضهم في سبيل مجد زائف أو شهرة وقتية أو مصالح ذاتية ضيقة، استغلوا قضية ألتراس الأهلي ثم ألتراس المصري، ثم عمدوا لسحب الدولارات من السوق وبث الإشاعات في المجتمع لإسقاط اقتصاد الدولة وهيبتها، خروجاً على المجتمع بعصابات البلطجة وما يدعى البلاك بلوك. تعيش مصر منذ أيام وضعاً مأسوياً حقيقياً يتمثل في حالة من الفوضى عصفت بشوارع المحروسة وعدداً من المحافظات، فضلاً عن العنف بكافة أشكاله من قطع طرق مرورية وسكك حديدية وخطوط المترو. بدايات تلك الأحداث تزامنت مع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، حيث بدأ المتظاهرون المحسوبون على أحزاب جبهة الإنقاذ الوطني في تأجيج العنف في مواجهة قوات الداخلية تارة يطالبون بإسقاط النظام حينما يشعرون أن الكفة تميل لصالحهم، ثم سرعان ما يتبدد ذلك على أرض الواقع حينما تتجلى الحقيقة للمواطنين، ويدركون حقيقة الغث من السمين، فيماطلون في الأحاديث بأن الخروج للتظاهر من أجل مطالب تتعلق بإسقاط الحكومة والدستور وذلك بعدما أدركوا الفشل الذريع في محاولة إسقاط النظام الشرعي الذي جاء عبر الصناديق الانتخابية والإرادة المصرية الخالصة، فينجم عن هذه التصرفات غير المحسوبة سقوط القتلى والجرحى مع اتجاه هؤلاء المتظاهرين لاقتحام مؤسسات الدولة سواء قصر الإتحادية أو ما شوهد في محافظات القناة من محاولات الهجوم على سجن بورسعيد العمومي لتهريب المدانين بقتل 74 شاباً من ألتراس أهلاوي في واقعة مذبحة بورسعيد المأسوية، لاسيما بعدما حكم القضاء بإحالة أوراق 21 متهماً من أهالي بورسعيد للمفتي تمهيدا لإعدامهم نكالا بما اقترفت أيديهم. بلاك بلوك في الذكرى الثانية لثورة يناير، خرجت علينا مجموعة من الشباب المتطرف، المستوردين لأفكار فوضوية، متأسين بحركات إرهابية غربية، سموا أنفسهم ب "بلاك بلوك"، الذين يعضدون الفكر الفوضوي الأناركي، محاولين إرهاب الشعب المصري، من خلال أعمال حرق وتخريب فى ثلاث محافظات، وقطع الكبارى والطرق وحرق مقر موقع "إخوان أون لاين" الإلكتروني، ومحاولتهم اقتحام مبنى ماسبيرو، بل رأيت منهم فى صبيحة يوم الجمعة الماضي من يستقلون دراجات بخارية على مدخل المحور، ويثيرون الذعر بين المواطنين البسطاء، محاولين بث روح غريبة عن طبيعة شعبنا، وبعيدة كل البعد عن أهداف الثورة المصرية. حركات ال "بلاك بلوك" أو المجموعات الثورية السوداء ليست ظاهرة مصرية، إنما أسلوب تظاهر عالمي يعود إلى ثمانينات القرن الماضي. وظهرت أول مرة في ألمانياالغربية في مدينتى برلين وهامبورج، وانقلت إلى الولاياتالمتحدة عام 1989 في تظاهرات أمام البنتاجون، وتعتمد فكرة إخفاء هوية أعضائها وتلجأ لأساليب هجومية للضغط على الحكومة مثل التخريب وتدمير ممتلكات الشركات الرأسمالية الكبرى ونهب المحال، وتنتمي للفكر الفوضوي. وصرح أحد مؤسسي هذه الحركة في مصر قائلاً :"لم أتوقع انتشار الفكرة بهذا الشكل في مصر كلها في ستة أيام فقط"، معرباً عن اندهاشه "بمدى القبول الذي لاقته الفكرة بين الشباب". و"بلاك بلوك" في مصر دعي إليها عبر صفحات التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر" للتظاهر، ثم تطورت بعدما قررت المجموعة النزول إلى الشارع ليلة ذكرى الثورة بغرض حماية المتظاهرين، ثم توالى بعد ذلك ظهورها في أحداث مختلفة مثل اشتباكات القصر العيني، والشيخ ريحان، وحريق مقر الموقع الإلكتروني لجماعة الإخوان المسلمين، وحريق محل للمأكولات بدعوى أنه ملك لجماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الأحداث، التي ارتبط بعضها بأعمال عنف واشتباكات مع رجال الأمن وتعطيل حركة مترو الأنفاق وقطع الطرق ، الأمر الذي دفع الكثيرين لوصفه عناصرها بالبلطجية الذين يهدفون إلى التخريب والسرقة، واعتبرهم آخرون صنيعة جهاز أمن الدولة السابق أو جهاز الأمن القومي الحالي تستخدمهم السلطات لإرهاب المواطنين، ارتفع عدد مؤيديهم بين الشباب وعلى صفحات التواصل الاجتماعي... ليندهش أصحاب الفكرة أنفسهم. تأجيج العنف وإن تعجب فعجب أننا لم نجد أياً من قيادات المعارضة أو جبهة الإنقاذ يخرج علينا ليستنكر ما يقوم به هؤلاء المتطرفون، ويعلن رفضه تلطيخ ثورتنا المصرية بالعنف والتطرف والدموية، بل وجدنا بعضاً من يسمون أنفسهم بزعماء الثورة، يرفع شعار دموية، وكأن هؤلاء المتطرفين يريدون حرق الوطن، وإشعال نيران الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، بل وجدنا بعضهم يقودون في القاهرةوالإسكندرية اشتباكات عنيفة مع رجال الشرطة الذين لم يمسوهم من قريب أو بعيد، وفرضت عليهم المواجهة بعد محاولات هؤلاء اقتحام المحاكم ومؤسسات الدولة التى تشدق الكثير من قيادات المعارضة بأنها خط أحمر، ومرفوض المساس بها، لكن وجدناهم يوم ذكرى الثورة يغمضون أعينهم عن كل هذه الانتهاكات. مع الأخذ في الاعتبار أن أي من المنتمين للتيار الإسلامي لم يقم يوما بقطع طرق أو قتل أبرياء أو حرق مؤسسات أو تخريب ممتلكات ، وقد كانوا في المعارضة في ظل النظام السابق يقتل أبنائهم ويعذب ذويهم لسنوات. وجاء الردع الحقيقى من الناس البسطاء، من أبناء الشعب المصري ، حيث قامت مجموعة من المواطنين بالتصدى للمتطرفين من "بلاك بلوك" عندما قطعوا كوبرى 6 أكتوبر، وتصدى التجار بشارع التوفيقية لهؤلاء الدمويين، عندما حاولوا حرق مقر إخوان أون لاين ولقنوهم درسا قاسيا، كما تصدى المواطنون العاديون لمن حاولوا اقتحام بعض مؤسسات الدولة فى الإسكندرية والإسماعيلية. الخروج من الأزمة إن حالة الفوضى التي يحاول بعض المتطرفين بثها فى أرجاء الوطن، تدفع الكثير من المصريين للتصدى لأصحاب الأفكار الهدامة. وأرى أنه على القيادة السياسية فى هذه المرحلة التاريخية الدقيقة أن تتخذ من الإجراءات القانونية الحاسمة لمحاسبة هؤلاء المتطرفين الفوضويين الذين يحاولون النيل من أمن واستقرار مصر ، كما ينبغي على الأجهزة التنفيذية أن تتدخل بحسم في مواجهة هؤلاء المتطرفين. لاسيما وأن قادة التيار الإسلامي يحاولون جاهدين السيطرة على شبابهم المشتعل غضبا، ممن وصلوا إلى أعلى درجات ضبط النفس والالتزام، لعدم الانجرار وراء أى استفزاز من هذه التصرفات المتطرفة التي أفسدت علينا ذكرى الثورة، كما ينبغي على المعارضة التوجه للوسائل الديمقراطية ، وعلى رأسها الانتخابات البرلمانية المقبلة إذا أرادت تغيير الخريطة السياسية المصرية. وقد دعت الجماعة الإسلامية لتنظيم مليونية يوم الجمعة الموافق 15 فبراير الجاري لنبذ العنف في المجتمع المصري ، وصرح الدكتور طارق الزمر رئيس المكتب السياسي لحزب البناء والتنمية أن تنظيم الجماعة الإسلامية لمليونية الجمعة المقبلة يأتي بعد أن استشعرت الجماعة أن هناك أخطار تهدد مصالح الوطن والمواطنين بزيادة موجات العنف في الشارع المصري بسبب ممارسات بعض التيارات والقوى المعارضة، لافتا إلى أن المشاركين في مليونية الجمعة القادمة وجدوا أن لهم هدفا موحدا هو نبذ العنف ورفض قطع الطرق وإغلاق الميادين، والشوارع والكباري والمترو، فضلا عن رفض البلطجة. وناشد وزارة الداخلية بالإسراع في التحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة في أي انتهاكات وقعت فيها أفرادها، مع الثناء والشكر لكل ما لمسه المصريون من جهود حقيقية لمواجهة التخريب والعنف، والحفاظ على أمن مصر ، وطال وزارة الأوقاف والجمعيات الدعوية كافة، بتوجيه عموم المصريين إلى إعلاء قيم الرفق والحب ورفض أخلاق العنف والكراهية، وبيان حرمة الدماء والممتلكات العامة والخاصة، وتعظيم قيم الوطنية والحرص على سلامته ، وناشد مجلس الشورى بالإسراع بسن القوانين المنظمة للتظاهر والاحتجاج السلمي، كما ناشد الإعلاميين بتوخي الدقة فيما يقال وينشر في الصحف والقنوات الفضائية، وألا يكونوا أبواقاً للفتنة ، لأن مثل هذه الأمور تعرض الاقتصاد المصري لمزيد من الضعف والأزمات الخانقة ، كما أن من يقفون وراء العنف والتخريب وقطع الطرق لا يبالون بمعاناة الشعب المصري وخاصة الطبقات الكادحة. كما ينبغي التعامل مع مجموعة قطاع الطرق والقتلة والمخربين والخارجين على القانون ، بتطبيق القانون عليهم، يجب أن تضرب الدولة بيد من حديد على كل القتلة والمجرمين والفوضويين الذين يسعون إلى محاولة إسقاط الرئيس المنتخب حتى ولو لم يتم ذلك إلا بإسقاط الدولة المصرية ذاتها، وهم لن يتحاوروا مع الرئيس إلا على أمر واحد هو كيفية تنحيه من أجل وصول قادتهم إلى السلطة، حتى لو كان بغير الطريق الديمقراطي الذي جربوه ففشلوا فتحولوا إلى القفز على السلطة بطريق العنف والقتل.