قرأت مؤخراً مقالاً لمحللة اقتصادية لبنانية، وهزتني عبارة كتبتها في سياق مقالها عندما قالت:"عندما عملت فترة بائعة في صالة مأكولات محل .." لم يكن المقال يعتمد على هذه الجملة، بل أنها لو حذفت العبارة لما تأثر المقال وقوته أبداً. هزتني صراحة المحللة وثقتها بنفسها، وعدم رغبتها في تزييف حياتها، أو أن تغش القارئ. سألت نفسي، وأنا أقرأ بقية المقال .. لماذا أصبحنا نكثر من الغش والتزييف في حياتنا؟ تتحدث وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة عن الغش في الانتخابات وعن ظواهر تسريب الامتحانات في التعليم، وعن ظواهر الغش الجماعي في اللجان، وغير ذلك من الفضائح التي هزت مجتمعنا بقوة، ولكننا لم نتحدث بصراحة حتى الآن عن ثقافة الغش التي انتشرت بيننا، وأصبح من علاماتها ما يحدث كثيرافي امتحانات نهاية العام، ليدل على مرض شاع بيننا. لا يحدث تسريب للامتحانات لأن هناك من يحب أن يسرب امتحاناً .. ولكن الحقيقة أن التسريب يحدث عندما يوجد أولياء أمور مستعدون للتحايل من أجل أن يحصل أبناؤهم على درجات لا يستحقونها. قد نلوم وزارة التربية والتعليم وأجهزة الأمن على التسريب، ولكننا نحن من أوجد سوقاً يمكن أن تباع فيها الامتحانات وتشترى، أي أننا نحن مساهمون أيضاً في انتشار ظواهر الغش والتحايل في حياتنا. أحزن عندما أشعر أن مظاهر الغش قد أصبحت طاغية في مجتمعنا، وأحزن أكثر عندما أشعر أننا لم نعد نبالي بها، بل واصطلحنا على ألا نتحدث عنها لأننا جميعاً نقع فيها بدرجة ما في وقت ما لسبب ما، ولا نريد أن نحرج بعضنا البعض بالحديث عنها. عندما يغش السائق في أجرة التاكسي نحاول أن نلتمس له عذر الفقر. وعندما يغش الطالب في اللجان، نقول أن الأولاد يعاونون بعضهم البعض، وأن الامتحانات صعبة. وعندما تقول الدولة أن الأسعار لن تزيد .. ثم تغش الشعب وتسارع بزيادتها .. يدعي العالمون ببواطن الأمور أن هذا ليس غشاً وإنما هي محاولة لتجنب غضبة شعبية عامة. عندما يغش الطبيب ليزيف شهادة مرضية لطفل ليحصل على لجنة خاصة في امتحان، أو لشاب ليجتاز اختبار مرور، أو لفتاة ليزيف عفتها .. فهذا الطبيب غشاش وخائن لمهنته ولدينه ولأمته، ولكنه موجود. وعندما نقول لأولادنا أننا كنا متفوقين لندفعهم إلى التفوق رغم أننا لم نكن كذلك، فنحن نغشهم ونخون أمانة التربية اللائقة بهم. وعندما نرتدي الساعات المقلدة والجواهر والمجوهرات المزيفة بقصد إيهام الناس بغنى زائف، وعندما ندعي أننا أثرياء ونحن لسنا كذلك، ونوهم الآخرين أننا أصحاب سلطة ونحن لسنا كذلك فإننا نمارس الغش الاجتماعي، وهو نوع من الغش يكاد يفتك بمجتمعاتنا ويحرمنا جميعاً من الأمان لانعدام الثقة بيننا جميعاً. عندما نضع على سيارتنا علامات توهم أننا من أجهزة أمنية، أو من علية القوم، ونحن لسنا كذلك فنحن نمارس الغش في حياتنا. وعندما نجعل من رموز الدين كلحية أو حجاب أو قراءة قرآن ستاراً نخفي خلفه نية خداع أو مكر أو أخذ ما لا نستحق، أو حتى لكي نحظى بثناء لا يتفق مع سرائرنا وما نفعله عندما نختفي عن أنظار الناس، فنحن غشاشون مخادعون لا نستحق إلا أن نوصف بصفة الغش. وعندما نحمل في سلسلة مفاتيحنا مفاتيح سيارات لا نملكها، ونقترض لنشتري جهاز محمول يعبر عن مستوى اجتماعي لا نعيشه، أو حتى نمشي بين الناس، وقد رسمنا على وجوهنا إمارات هيبة وأهمية مصطنعة لا نستحقها، وما أكثر ما أرى في حياتنا من هؤلاء، فإننا نساهم في انتشار ثقافة الغش في حياتنا، وندعم مشروع "فقدان الثقة" بين أبناء شعبنا. وعندما تزور الدولة إرادة الناس، وتدعي أننا نحب من لا نحب، أو أننا نوافق على ما لم نوافق عليه، أو أننا نقبل من القوانين ما لم نقره، أو أننا اخترنا من النواب ما لم نختر، فإن الدولة تقدم لنا قدوة في الغش لا تليق بمصر، ولا تليق بأي دولة تحترم نظامها، أو تحترم شعبها، أو تحترم حتى قياداتها التي يغش البعض من أجل إرضائهم. أشعر أننا عندما نتحدث عن الغش نلقي دائماً بأصابع الاتهام على الفقراء والبسطاء، وكأن النخبة أو الصفوة كما نسميهم لا يغشون. نتحدث عن التجار فقط أنهم من يكتالون في الميزان وأنهم من نزل في بعضهم قول الله "ويل للمطففين"، وننسى أن التطفيف يمكن أن يحدث حتى في أحاديث الناس لأنه نمط من أنماط الغش. فعندما تروي قصة ما، وتصنع لنفسك فيها دوراً لم يكن لك، لتضفي على نفسك جرأة أو بطولة أو كرم أو زهد أو غير ذلك، فاعلم أنك تمارس نمطا من أنماط الغش الاجتماعي الأنيق والبغيض والذي شاع في حياتنا. وعندما يقف الإمام أو الخطيب ليصرخ في العامة تصنعاً وكأنه معصوم، وهو ليس كذلك، فإنه يغش الناس ويفقدون بسببه الثقة في دينهم وفيمن يتحدثون عنه. أتذكر حديث قدسي سمعته منذ سنوات، وهزني كثيراً لبساطته الشديدة، وعمق معناه، وأتمنى أن نتذكره ونحن نمارس صنوف الغش التي لم نعد نسميها غشاً. سنحاول أن نتهرب من مواجهة الأمر باتهام صاحب المقال بالمبالغة والتعميم، ونقصد بالتأكيد من ذلك أن نستثني أنفسنا .. فليس من المعقول أن نكون نحن من الغشاشين .. لذلك أقول لنفسي ولمن يقرأ مقالي هذا .. الغش نية! والأعمال بالنيات .. وعد لقراءة المقال وابحث إن كنت تمارس أي نوع من أنواع الغش الاجتماعي الذي شاع في حياتنا، ولا تعذر نفسك، واقرأ معي حديثاً رواه خير الخلق عن رب العزة جل وعلا مخاطباً أمتنا .. وليس فقط عموم الأمة، ولكن النخبة والصفوة، ومن يقدمون أنفسهم قادة للمجتمع في أهم المجالات وهي الدين والأمن والمال .. إنه حديث يخاطب رجال الدين ورجال الجندية ورجال الأعمال .. هم الصفوة والنخبة والقادة، ولذلك لا يجب أن يغشون، وعقابهم عند الغش كبير، .. تأمل معي كيف يصف الحديث عاقبة من يغش .. بأناقة! اقرأوا معي الحديث، ولنسأل أنفسنا إن كنا نحب أن تكون هذه هي عاقبتنا، أو عاقبة من نحب ممن حولنا ممن يمارسون الغش الأنيق البغيض. يقول خير الخلق فيما يروي عن رب العزة: "إن أول من يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فَأُتِىَ به، فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقِىَ فى النار، ورجلُُ تَعَلَّمَ العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقى في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى فى النار." هذه هي عاقبة الغش الأنيق البغيض. لن يعلم الناس بالضرورة أنك غشاش، ولكن الخالق جل وعلا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وليس كل من لبس ساعة مزيفة أو مجوهرات مقلدة غشاش، فمنا من لا يطيق شراء الذهب أو العلامات التجارية غير المقلدة، ولكنني أشير فقط إلى فكرة "نية الغش"، وهذا ما يجب أن نراجع أنفسنا فيه، ونحذر منه، ولا ننساق إليه تحت مبررات ضغط الواقع. أعود فأقول .. الغش نية! .. ونحن أعلم بنوايانا، ونحن أيضاً سنحاسب عليها، وأخيرا .. وربما من أهم الأمور .. أننا أيضاً نملك تصحيح النية والتوقف عن الغش تحت أي مسمى، ومن أجل أي مبرر يبدو في هذه اللحظة مقنعاً، ولكنه مدمر لدنيانا، ولسلامة مجتمعنا وثقتنا ببعضنا البعض، وهو كذلك مدمر لآخرتنا .. فلا يعقل أن يقبل أي منا أن يلقى الله تعالى، وهو غشاش .. حتى لو لم نسمي الكثير مما نفعل اليوم غشاً!