استهل الرئيس بوش خطابه بتذكير العالم بأنَّ لديه مآثر أيضا قائلاً إنَّه كان أوَّل رئيس للولايات المتحدة يدعو إلى قيام دولة فلسطينية "ديمقراطية" تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل في سلام وأمن؛ أمَّا ما حَمَلَه على أن يدعو إلى ذلك، قبل أكثر من خمس سنوات، فهو إدراكه لحقيقة أنَّ الفلسطينيين ينبغي لهم أن يعيشوا في حال جديدة تخلو من "الفقر" و"الاحتلال". تلك "المأثرة" فَقَدَت، أو أفْقَدَها الرئيس بوش نفسه، كثيرا من معانيها؛ لأنَّه لم يفعل شيئا، مُذْ "دعا"، يسمح له بأن يقول في خطابه إنَّه أوَّل رئيس للولايات المتحدة "دعا"، ثمَّ جَعَل دعوته حقيقة واقعة، فكل ما فعله بعد "الدعوة" لم يتعدَّ السعي في إكراه الفلسطينيين، بأساليب شتى، على التفريط في جوهر قضيتهم القومية، وفي جوهر حقوقهم القومية، قبل، ومن أجل، حصولهم على تلك الدولة "الديمقراطية"، التي تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن. لقد أكَّد لهم قولا وعملا أنَّ استخذاءهم لشروط حصولهم على تلك الدولة والتي تضمَّنتها "رسالة الضمانات" التي سلَّمها لشارون، أي تخلِّيهم عن "وديعة عرفات"، هو وحده الذي يمكنه أن يأتي لهم بتلك الدولة "الديمقراطية المسالمة". والفلسطينيون، الذين يزدادون اقتناعا كل يوم بأنَّ "حماس" أساءت كثيرا، وكثيرا جدا، إليهم، وإلى قضيتهم القومية، إذ ارتكبت ما ارتكبته في قطاع غزة، لا يمكنهم أن يقتنعوا بما أراد الرئيس بوش أن يقنعهم به إذ قال في خطابه "أجرى الفلسطينيون انتخابات حرَّة، واختاروا رئيسا ملتزما بالسلام"؛ لأنَّهم أجروا أيضا انتخابات حرَّة، اختاروا فيها مجلسا تشريعيا تهيمن عليه "حماس"؛ وقد انبثقت منه "حكومة حماس"، التي لرفضها تلبية شروط ومطالب "اللجنة الرباعية الدولية"، ظَهَر الفلسطينيون على أنَّهم اختاروا في حرِّية تامَّة، وعلى نحو ديمقراطي، برلمانا وحكومة "غير ملتزمين بالسلام". ولو كان لدى الرئيس بوش ما يكفي من الجرأة للاعتراف ب "الحقيقة" لاعترف بأنَّ الولاياتالمتحدة وإسرائيل هما من تسبَّب، في المقام الأوَّل، بإفقاد "خيار السلام" جاذبيته لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين، ولاعترف للفلسطينيين بأنَّه خذلهم بعدما أجروا انتخابات حرَّة، اختاروا فيها رئيسا ملتزما بالسلام. "اللحظة" إنَّما هي، بحسب قول الرئيس بوش، "لحظة الوضوح"، و"لحظة الاختيار"، بالنسبة إلى الفلسطينيين جميعا، فقطاع غزة هو "النموذج السلبي"، والضفة الغربية هي "النموذج الإيجابي". وهذا القول إنَّما يعني أنَّ الرئيس بوش عاقد العزم على جَعْل سوء الحال في قطاع غزة مقياسا تُقاس به فحسب إيجابية النموذج المضاد في الضفة الغربية، وكأنَّ الخيار السياسي الذي يريد للفلسطينيين الأخذ به هو الذي ينشأ ويتطوَّر من خلال المفاضلة بين سياسة أدَّت في قطاع غزة إلى نقص في الطحين، مثلا، وسياسة أدَّت في الضفة الغربية إلى وفرة فيه. وكلَّما اضْطَّر الفلسطينيون إلى مزيد من هذه المفاضلة تضاءلت لديهم الحاجة إلى "المفاضلة الفضلى" وهي المفاضلة بين الحل النهائي الذي تتضمنه "رسالة الضمانات" والحل النهائي الذي تتضمنه "وديعة عرفات"، فالرئيس بوش، وعن عمد، لم يأتِ على ذكر اسم عرفات إذ ذَكّر أسماء أبطال السلام. "نموذج غزة" سيستمر ما استمرَّت الحاجة إليه بوصفه وسيلة لإقناع الفلسطينيين على وجه العموم بأنَّ الكارثة التي يرونها في هذا النموذج ستُصيبهم جميعا إنْ هُم ظلوا يرفضون الحل النهائي الذي تضمَّنته "رسالة الضمانات". وفي "نموذج غزة"، ليس من عمل يمكن أن تؤدِّيه سلطة "حماس" في القطاع سوى السماح بدخول المساعدات الإنسانية إليه، فالكارثة التي يراد لها الاستمرار هناك يجب ألا تنتهي إلى نتائج من قبيل أن يموت الفلسطينيون جوعا أو مرضا. وسيتولى بلير بالتعاون مع دايتون بناء "مؤسَّسات الدولة (قبل قيام الدولة)"، على أن يأتي عملهما، أو مهمتهما، بما يؤكِّد أنَّ الفلسطينيين قد استوفوا شروط حصولهم على "دولة فلسطين الديمقراطية التي تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل في سلام وأمن". والعمل الأوَّلي لمبعوث "الرباعية الدولية" بلير، والذي يقوم على "الإصغاء فالتفكير"، سينتهي إلى إقرار "خطَّة لبناء المؤسَّسات الفلسطينية"، ثمَّ يأتي "التمويل الدولي". وبعدما يَثْبُت ويتأكَّد نجاح "خطَّة بناء مؤسَّسات الدولة"، يصبح ممكنا، بحسب قول الرئيس بوش، بدء مفاوضات جدِّية توصُّلا إلى إقامة دولة فلسطينية. ولكن، هل من مرجعية لهذه المفاوضات؟ أجل، لديها مرجعية، أوضح الرئيس بوش وشرح بعضا من أهم عناصرها ومكوِّناتها. أوَّلا، ينبغي لهذه المفاوضات أن تؤدِّي إلى قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة، متَّصلةً أجزاؤها"، أي أنَّ "دولة فلسطين" يجب أن تكون "أجزاء"، على أن يَتَّصِل بعضها ببعضٍ. ثانيا، لا بدَّ من حلٍّ لمشكلة "الحدود" يقوم على المزاوجة بين "خط الرابع من يونيو (1967)" و"الحقائق الجديدة"، التي بموجبها تَضُمُّ إسرائيل إليها (بالاتِّفاق مع الفلسطينيين) أجزاء من أراضي الضفة الغربية (ومن القدسالشرقية، أو القدسالشرقية كلها). ويعود إلى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أمر الاتِّفاق (عبر التفاوض السياسي الثنائي) على "الحدود الجديدة"، أو على "تعديل الحدود". ثالثا، وفي "نهاية المطاف"، يمكن التوصُّل إلى اتِّفاق على حلٍّ نهائي للمشكلات الأخرى، كمشكلتي "اللاجئين" و"القدس". وإذا كان الرئيس بوش يريد ل "دولة فلسطين" أن تكون "ديمقراطية مسالمة" فإنَّه يريد للولايات المتحدة أن تظلَّ على التزامها الدفاع عن إسرائيل بوصفها "دولة يهودية، ووطنا للشعب اليهودي"، وكأنَّ مواطنيها من العرب (الفلسطينيين) لن يبقوا جزءا من هذه الدولة إلا بفضل "ديمقراطيتها وإنسانيتها فحسب"! الرئيس بوش لم يَدْعُ في خطابه، أو حتى الآن، إلى "عقد لقاء دولي في الخريف المقبل"؛ ولكنَّه قال إنَّه "سيدعو" إلى عقده. ولكن مَنْ يُمْكنه الحضور والمشاركة؟ عن هذا السؤال أجاب الرئيس بوش قائلا: سيجيء إلى هذا اللقاء ممثِّلو الدول "التي تؤيِّد مبدأ الدولتين، وتَنْبُذ العنف، وتَعْتَرِف بحق إسرائيل في الوجود، وتلتزم كل الاتفاقيَّات السابقة. الطرفان الأساسيان في هذا اللقاء هما الإسرائيليون والفلسطينيون. أمَّا "جيرانهما" فلن يَحْضُر منهم إلا من استوفى تلك الشروط. رايس، وبأمرٍ من الرئيس بوش، سترأس هذا اللقاء، الذي سيُبحثُ فيه ما أُنْجِز من مهمَّة "بناء مؤسَّسات فلسطينية"، وما يُمْكِن عمله في هذا الشأن، كما سيُبْحَث في ما يمكن القيام به دبلوماسيا لدعم الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني) في محادثاتهما ومفاوضاتهما الثنائية، توصُّلا إلى أن يصبح "في مقدورنا المضي قُدُما في مسارٍ يؤدِّي في آخر المطاف إلى قيام الدولة الفلسطينية". ولم ينسَ الرئيس بوش أن يأتي، في خطابه، على ذِكْر "مبادرة السلام العربية"، فقد وصف إعادة تأكيد الدول العربية التزامها تلك المبادرة في قمَّة الرياض بأنَّها "خطوة أولى مُسْتَحبَّة"، قائلا إنَّه ينبغي للدول العربية الآن "أن تبني على أُسُس المبادرة"؛ ولكن كيف؟ أجاب قائلا: "من خلال نَبْذِها خرافة أنَّ إسرائيل غير قائمة، ومن خلال توقُّفها عن التحريض على معاداة إسرائيل في وسائل إعلامها الرسمية، ومن خلال قيام ممثِّلين لها على مستوى وزاري بزيارة إسرائيل". وحتى يَفْهَم العرب السياق الجديد لجهود ومساعي السلام قال الرئيس بوش وأوضح أنَّ كل تلك الجهود والمساعي إنَّما هي جزء من كل؛ وهذا "الكل" إنَّما هو تمكين "قوى الاعتدال" من التغلُّب على "قوى التطرُّف" على المستوى الإقليمي، وكأنَّ "دولة فلسطين الديمقراطية المسالمة" لن تصبح حقيقة واقعة إلا بعد، وبفضل، نجاح "قوى الاعتدال" في إلحاق الهزيمة ب "قوى التطرف" في الشرق الأوسط برمَّته. وهذا "الحل"، الذي من أجله سيدعو الرئيس بوش إلى عقد لقاء دولي في الخريف المقبل، إنَّما يقوم على "الضفة الغربية أوَّلا"، و"التطبيع أوَّلا"! الصيف فصلٌ للحروب؛ والخريف (والشتاء من بعده) يَصْلُح فصلاً للسلام؛ ولكنَّ "ورقة بوش" لن تكون أقوى من أوراق الشجر في الخريف! "إذا أردتَ السلام فاستعد للحرب".. وأقول عن بوش، بعدما قرأتُ ما بين السطور في خطابه؛ لأنَّ خطابه يستمد أهميته ليس من سطوره وإنَّما ممَّا بينها، إذا أردتَ الحرب فاستعد للسلام، على أن يُفْهَم استعداد بوش للسلام على أنَّه قولٌ يَعِدُ فيه، هذه المرَّة، بعقد "مؤتمر (ليس ب "مؤتمر" وليس ب "دولي") للسلام" في الخريف المقبل (أي بعد اجتياز "جسر أيلول" الذي يصل بين نهاية الصيف وبداية الخريف) تستضيفه بلاده وترأسه وزيرة خارجيته بأمر رئاسي. ليست الأممالمتحدة، ولا مجلس الأمن الدولي، ولا حتى "اللجنة الدولية الرباعية"، وإنَّما الولاياتالمتحدة هي وحدها التي يحق لها أن تدعو إلى عقد "مؤتمر للسلام" بين إسرائيل وبين.."، وأن ترأسه، وأن تُحدِّد أهدافه وشروط حضوره والمشاركَة فيه، فإسرائيل مدعوة إليه "مجَّاناً"؛ أمَّا الدول العربية "المجاوِرة" فهي التي استوفت شرط "الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقة دبلوماسية معها"، فلا بأس من مؤتمر جديد للسلام يحضره فحسب "الأصدقاء"، أي الذين توصَّلوا من قبل إلى السلام؛ أمَّا "الأعداء" للدولة اليهودية من العرب فعليهم أن يستوفوا، إذا ما أرادوا الحضور والمشارَكة، الشرط المرئي في وضوح ما بين السطور، وهو "التطبيع أوَّلا"، أي قبل ومن أجل السلام. الرئيس بوش لم ينسَ؛ ولكنَّه تناسى، "المعنى الدبلوماسي" ل "مبادرة السلام العربية (البيروتية الرياضية) فأغلق الباب في وجه "جامعة الدول العربية"، مُبْديا الاستعداد لفتحه في وجه دول عربية اعترفت بإسرائيل، وأقامت علاقة دبلوماسية معها؟! لقد قالها بوش، وإنْ ضِمْنا، إنَّ "مبادرة السلام العربية"، على أهميتها، لا تعطي وفدا لجامعة الدول العربية الحق في أن يجيء إلى "المؤتمر" ولو من أجل أن يشرح لإسرائيل، ضِمْن "المؤتمر"، أبعاد ومعاني "المبادرة" المباشِرة وغير المباشِرة، لعلَّه يُوَفَّق في أن يشرح لها صدرها للسلام، الذي حدَّدت له نوعا جديدا من "المفاوضات السياسية"، تسمَّى "مفاوضات الأُفْق السياسي"، التي تشمل كل شيء إلا "الحدود"، و"اللاجئين"، و"القدسالشرقية"، أي أنَّها تشمل كل شيء إلا ما كان يسمَّى "القضية الفلسطينية". على أنَّ "مفاوضات الأُفْق السياسي"، ولو أجْرِيت، أو اسْتُكْمِلَت، في "مؤتمر رايس"، لن تنجح ما لم ينجح بلير دايتون في بناء "مؤسَّسات الدولة" بما يسمح بقيام الدولة ذاتها، "المتَّصِلة جغرافيا"؛ ولكن بما لا يتعارَض مع "خريطتها الجغرافية" التي تضمَّنتها "رسالة الضمانات"، التي بما لا يتعارَض معها، بوصفها "مرجعية ضِمْنية" ل "مؤتمر السلام"، وعد بوش بعقده. بوش، وكأنَّه يريد التعبير عن عدائه ل "دولة فلسطين" الفلسطينية، أعاد تأكيد التزامه "الاتصَّال الجغرافي" خاصِّيَّةً للدولة الفلسطينية لعلَّ الفلسطينيين يفهمون المعنى والمغزى، فهذه الدولة لن تكون متَّصِلة جغرافيا إذا لم يُضَم إلى إسرائيل جزء كبير من أراضي الضفة الغربية (ومن القدسالشرقية) وإذا لم تكن "خيوط الاتِّصال" في يد إسرائيل وإذا لم يتخلَّ الفلسطينيون عن "وديعة عرفات" التي تركها في كامب ديفيد، ف "رسالة الضمانات" خيرٌ وأبقى! وإلى أن يُعْقَد "المؤتمر"، ومن أجل أن يُعْقَد، وأن ينجح إذا ما عُقِد، ينبغي للعرب أن يؤيِّدوا، بالتالي، صاحب الفكرة، الذي هو الآن قاب قوسين أو أدنى من التحوُّل إلى شمشون، ف "حروبه الجديدة" على الأبواب!