هل العالم يمر، فعلا، بمرحلة من الصراع يمكن أنْ نجد فيها من المعاني والسمات والخصائص ما يسمح لنا بالنظر إليها على أنَّها مرحلة "صراع حضارات"؟ قد يكون قديما هذا المفهوم، أعني مفهوم "صراع الحضارات"؛ ولكنَّ القول به شاع واتسع وتشرَّب معانٍي عنصرية وصليبية ويهودية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وانتقل بجدله وأثره وتأثيره من عالم الأيديولوجيا إلى عالم السياسة. وبدا أنَّ الرئيس بوش وتشيني ورايس ورامسفيلد، وغيرهم، قد تبنُّوا، في بعض أقوالهم ومواقفهم وأفعالهم، مفهوم "صراع الحضارات"، الذي نظر إليه كثير من العرب والمسلمين على أنَّه تبرير أيديولوجي لشن الولاياتالمتحدة (وحلفائها) لحرب عنصرية صليبية (يهودية في عرقها النابض) على الإسلام والمسلمين، فصراع الحضارات، وفق فهم رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني لمعانيه ومراميه، إنما يستهدف تأكيد "تفوُّق" الحضارة المسيحية الغربية (في قيمها ومبادئها) على الحضارة الإسلامية، التي رأى فيها المناخ الأيديولوجي الملائم لنمو "الإرهاب الإسلامي". ولقد أظهر كثير من العرب والمسلمين ميلًا إلى فهم تبني إدارة الرئيس بوش (السرِّي تارة والعلني طورا) لمفهوم "صراع الحضارات"، في معناه هذا، على أنَّه تعبير عن خضوع هذه الإدارة للتأثير اليهودي في وجهيه الأيديولوجي والسياسي، وعن "الرغبة الصليبية التاريخية في الثأر والانتقام"؛ أمَّا تحقيق هذه الرغبة فيكون بالتهيئة لقيام "إسرائيل العظمى"، وبإخضاع وإذلال وإضعاف العرب والمسلمين ونزع ما يسمُّونه، في الغرب، "الوحشية السياسية" من الإسلام! وبما يتفق مع هذا المعنى من مفهوم "صراع الحضارات"، الذي تبنَّاه وآمن به الرئيس بوش مهما حاول نفي ذلك، اقترح وزير إسرائيلي (من أقصى اليمين) هو الحاخام بيني ايلون "تنصير المسلمين"، توصُّلا إلى النجاح في "الحرب على الإرهاب"! وعملية "التنصير" يجب، بحسب اقتراحه، أنْ تبدأ بمن أسماهم "المتطرفين من المسلمين"؛ وينبغي للمجموعات الأصولية المسيحية أنْ تتولى هذه العملية. وحتى لا يشذ "التنصير" عن القاعدة المعمول بها تاريخيا وهي "تنصير الوثنيين"، اعتبر هذا الوزير الإسرائيلي (الحاخام) المسلمين الذين "يفجِّرون أنفسهم" ويرددون "الله أكبر" نمطا من "الوثنيين"، الذين يمكن ويجب تنصيرهم، قائلا: "يُفضَّل أنْ يعتنق هؤلاء الناس المسيحية التي تستند إلى الإنجيل الذي يعترف بحقوقنا في الأرض المقدَّسة"! ودعا هذا الوزير المجموعات المسيحية الإنجيلية، التي يلتقيها في استمرار، إلى أنْ تقبل مساعدته لها في نشر "الدعوة المسيحية" في العالم أجمع انطلاقا من إسرائيل، على أنْ تلتزم هذه المجموعات باستثناء اليهود من مهمتها التبشيرية، فاليهودي هو الكائن البشري الوحيد الذي خلقه الله ليظل يهوديا إلى الأبد؛ أمَّا اليهودية فهي العقيدة الدينية الوحيدة التي يجب ألا يدين بها غير "شعب الله المختار"! وعرفت الولاياتالمتحدة تنامي تأثير مجموعات مسيحية تعتقد أنَّ مسيحيتها وإيمانها الإنجيلي لا يتعززان ويكتملان إلا بإبدائها مزيدا من التأييد لإسرائيل ولليهود ولليهودية، وبقبولها العمل في خدمة "الشعب اليهودي"، تعبيرا عن إيمانها بما يسمَّى "الوعد الإلهي لشعب إسرائيل بمنحه أرض فلسطين (وجوارها) ليقيم له فيها وطنا ودولة"! وتقوم هذه المجموعات بنشر وهم أنَّ خير خدمة يمكن أنْ يسديها المسيحي لمعتقداته وإيمانه هي خدمة "شعب الله المختار"، وتمكينه من تحويل الأوهام التلمودية إلى حقائق تاريخية وسياسية في فلسطين وجوارها، أي في "أرض الميعاد" كما رُسمت خريطتها في التوراة! إنَّ هذا الوزير العنصري الإسرائيلي الذي هو مخلوق من مخلوقات الوهم يدعو خدمه من هذه المجموعات المسيحية الإنجيلية إلى أنْ ينتقل مبشِّروها من مسجد إلى مسجد من أجل "حمل النور إلى المسلمين ("القتلة")"! هذا الوزير يتمنى أنْ تتمكن هذه المجموعات من بسط سيادتها الأيديولوجية (والسياسية) في الغرب، ومن النجاح في "تنصير" المسلمين ("الوثنيين") حتى يتحول العالم بأسره إلى خادم ذليل لهذا الشعب الذي أمعنت الحضارة في إذلاله فلم يجد ملجأ يلجأ إليه سوى نسجه مزيدا من الخرافات العرقية العنصرية البغيضة التي ما أنْ خلقها حتى شرعت تخلقه على مثالها! والذين غزوا عقل الرئيس بوش كل يوم وكل ساعة بمزيد من الأوهام والخرافات التي تتوفر على اختلاقها ونشرها المجموعات المسيحية الإنجيلية، أقنعوه بأنَّ إيمانه الإنجيلي لن يكتمل إلا بمضيه قُدما في التهوُّد والتهويد. إننا لا ننفي "صراع الحضارات" ولا أي صراع واقعي آخر؛ ولكننا ننفي أنْ يشتمل "صراع الحضارات" على المعنى الحقيقي والتاريخي لهذا الشكل من الصراع، والذي قد ينشأ ويستمر (وينتهي) من دون إراقة دماء، فنحن في مجتمعنا العربي والإسلامي نخوض، يوميا، صراعا بين قيم حضارتنا العربية الإسلامية وقيم الحضارة الرأسمالية الغربية؛ أمَّا نتيجة هذا الصراع اليومي فلا تقررها سوى مصالحنا وحاجاتنا الواقعية، التي تختار من القيم والمبادئ وأنماط العيش والتفكير ما يخدمها ويلبيها. "صراع الحضارات" هو سنَّة من سنن التطور التاريخي، الذي بفضله تتغير "الجينات الحضارية" وينتفي كل مبرر للقول بالحضارة الخالصة النقية. وصراع الحضارات هذا لا يمت بصلة إلى مفهوم "صراع الحضارات" الذي استخدموه في الغرب لتأليب شعوب الغرب عموما على العرب والمسلمين، مدخلين في روعهم أنَّ حضارتهم المسيحية والليبرالية عرضة لهجوم "إرهابي" من "الحضارة الإسلامية"، وأنَّ درء هذا "الخطر" يستلزم تغيير "المناهج الدراسية" لدى العرب والمسلمين وتجريد هؤلاء من "أسلحة الدمار الشامل" ومن مصادر قوتهم "الإرهابية".. ودعم إسرائيل في الحرب والسلام! الحضارة العربية، هي "حضارة الكذب"؛ أمَّا "الحضارة اليهودية (والمسيحية)" فهي الحضارة.. الحضارة الحقيقية أو حضارة الحقيقة. هذا القول، أو الحكم، ليس لمؤرخ أو مفكر أو باحث جاد؛ وليس لأوروبي أو آسيوي.. إنه ليهودي متعصب، ضيق الأفق، يستبد به الشعور ب"الدونية الحضارية والهامشية التاريخية". إنه لجنرال إسرائيلي، مهزوم، حضاريا وإنسانيا، من الداخل، ويؤمن بأن الحضارة ذاتها تنبع هي، أيضا، من فوهة البندقية. إنه للعسكري باراك! وقبل هذا الجنرال السيئ الطالع، الذي يرى في نفسه عبقريا له أفق يسع كل شيء ولا يسعه شيء، جاء المفكر اليهودي العظيم شمعون بيريز بما يشبه تقويض وإلغاء بديهية هندسية، فقال، وكأنه يحاضر في موتى، إنَّ حضارة وادي النيل لا شيء، وإنَّ حضارة بني إسرائيل هي كل شيء. أين هي تلك الحضارة، التي يزهو بها بيريز ويفخر؟! أين مكانها، ومتى كانت؟! أين إنجازاتها ومعالمها وآثارها، التي لم يقوَ الزمن على محوها وطمسها؟! أين حضارتهم؛ بل أين هم، بالمعيار، الذي وفقه، يتحدد وجود الشعب أو الأمة من عدمه؟! هم عرق باد منذ آلاف السنين؛ أمَّا بقيته الباقية التي نجت من الانقراض فقد امتزجت وذابت في الشعوب والأمم الحية حتى صار التنقيب عنها من اختصاص علم الجينات. وفي هذا الامتزاج والذوبان، الذي يشبه امتزاج وذوبان قطرة حبر في بحر، حدثت المبادلة الأسوأ في التاريخ، فالبقية الباقية من قبائل بني إسرائيل أعطت قلة قليلة من هذه الشعوب والأمم خير منتجاتها الخرافية لتأخذ منها، بعدما تفرق دمها فيها، شيئا من إبداعها الحضاري، فتهيأت الفرصة، بالتالي، لظهور عظماء من أمثال آينشتاين، الذي لم يتوصل إلى "النسبية العامة والخاصة" إلا لكونه ألمانيا، بالمعنى التاريخي لا العرقي لكلمة "ألماني". ما كان له أن يكون عبقريا مبدعا لو اهتدى بهدي الخرافات التلمودية. *كاتب فلسطيني الأردن