حتى الآن، وبدافع متضاءل من حُسْن الظن، نرى في الأمر "تزامنا"، هو في حدِّ ذاته أمر في منتهى السوء؛ وقد يَظْهَر لنا عمَّا قريب ما يقيم الدليل على أنَّ هذا "التزامن" هو ظاهر الأمر ليس إلا، فإذا اتَّضح ذلك وتأكَّد فلا مناص، عندئذٍ، من القول، بما يشبه اليقين (وليس التنجيم) السياسي، إنَّ العام 2007 لن يَدْخُل التاريخ إلا باعتباره عام القضاء على القضية الفلسطينية بوصفها قضية حقوق قومية للشعب الفلسطيني.
"التزامن" إنَّما هو تزامن الاقتتال الفلسطيني، في قطاع غزة، مع القتل الإسرائيلي للفلسطينيين من أبنائه، فالمقتتلون يقتتلون وكأنْ لا حرب شرعت إسرائيل تشنها عليهم.. وكأنْ لا أهمية فلسطينية تُذْكر لأمر هو في منزلة الحقائق التاريخية وهو أنَّ الخطر الخارجي يمكن ويجب أن يكون عامِل توحيد لكل الذين يتهدَّدهم هذا الخطر.
وإسرائيل تشن حربها الجديدة في قطاع غزة وكأنَّ الفلسطينيين من أهله، هذه المرَّة، بينهم من عوامل الفرقة والانقسام والعداء ما يُعْجِز هذا الخطر الخارجي عن جعلهم يتَّحدون، وينبذون الاقتتال والحرب الأهلية ولو إلى حين.
الشعب هناك محاصَرٌ، إسرائيليا ودوليا وعربيا، حتى الموت، الفردي والجماعي، جوعا ومرضا. وها هو زعيم المعارضة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي من أجل منعه من أن يصبح رئيسا للوزراء، ومن أجل أهداف أخرى أكثر أهمية، قرَّرت حكومة اولمرت بيريتس شن الحرب الجديدة، يدعو إلى عملية عسكرية إسرائيلية برية في قطاع غزة، وإلى مزيد من الحصار الإسرائيلي للقطاع، وإلى ضرب البنى التحتية المدنية فيه ووقف إمداد إسرائيل للفلسطينيين (في القطاع) بالكهرباء والماء، توصُّلا إلى وقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية (التي لا تضر إسرائيل ولا تنفع الفلسطينيين إنْ لم تضرهم) على سديروت.
والمسلَّحون الملثَّمون، الذين يشبهون العاملين لدى الشركات الأمنية في العراق، والذين تُسيِّرهم قيادات لها من المصالح والأهداف ما يجعلها في انفصال متزايد عن المصالح والأهداف العامة للفلسطينيين، يمضون في اقتتالهم، وفي قَتْل أبناء شعبهم، والقضاء على سُبُل عيشهم، وعلى مقوِّمات وجودهم الإنساني.. ويمضون في حرب، يريدونها أو لا يريدونها ضد القضية القومية للشعب الفلسطيني، وكأنَّ العداء لإسرائيل، والعداء الإسرائيلي للفلسطينيين، ما عادا برادع يردعهم عن ارتكاب مزيد من الجرائم في حق شعبهم وقضيته القومية.
هذه حرب، إنْ استمرَّت وتوسَّعت، فلن ينتصر فيها فريق على فريق؛ فإذا كان الفريقان المتصارعان بالحديد والنار هما "حماس" و"فتح" فإنَّ أحدهما لن ينتصر، بقوة السلاح، على الآخر. ومع ذلك فلن تكون حربا لا منتصر فيها ولا مهزوم، فالمنتصر حتما هو إسرائيل، والمهزوم حتما هو الشعب الفلسطيني وقضيته القومية، فهل يقتتلون من أجل ذلك؟!
هؤلاء لم ينفصلوا عن شعبهم فحسب، فما نراه إنَّما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّهم قد انفصلوا، أو شرعوا ينفصلوا، عن آبائهم وأمَّهاتهم من التنظيمات والقيادات الفلسطينية، وكأنَّ موقِّعي "اتِّفاق مكة" يراد لهم أن يتحوَّلوا إلى ظلال لتلك الأجسام "الغريبة" عن الشعب الفلسطيني وقضيته القومية.
وأخشى ما أخشاه في مناخ الاقتتال هذا أن يقوم "مجهولون" باغتيال قيادات فلسطينية بارزة، ولها من الأهمية الرمزية، ما من شأنه أن يسكب زيتا على النار يكفي لجعلها موقَدَةً حتى تأتي على الأخضر واليابس من الشعب وقضيته، فالأيادي الخفية أكثر كثيرا من تلك التي نراها.
لقد حان لكل القوى الفلسطينية المضادة للحرب الأهلية أن تتَّحِد، وأن تتحِّد مع الشعب، في الصراع ضد قوى الحرب الأهلية، ما ظَهَر منها وما استتر.. ولموقِّعي "اتِّفاق مكة" حان لهم، على وجه الخصوص، أن ينفصلوا عن "المنفصلين (عنهم وعن الشعب)"، وأن يقضوا على "جماعات الثلاثين من الفضة"، فليس من هدف يعلو الآن على هدف اجتناب الحرب الأهلية، التي هي "الشارونية" وقد بُذِرَت بذورها في قطاع غزة "المحرَّر"!