حتى الآن، لم أرَ في "المشهد"، وعلى الرغم ممَّا يُبْذَل من جهد لجَعْلِنا نرى فيه ما يريدون لنا أن نرى، إلا ما يُشدِّد المَيْل إلى إحياء الاعتقاد ب "نظرية المؤامرة"، فَمَنْ يَضْرب صفحا عن هذه النظرية، مخافة أن يُنْظَر إليه على أنَّه غِرٌّ في السياسة، عاجِزٌ عن سَبْرها، لا يمكنه أن يَفْهَم هذا الصراع بالحديد والنار بين الجيش اللبناني وجماعة "فتح الإسلام" حَوْل مخيم نهر البارد، وفيه، إلا بما يَجْعَل "توقُّعاته" تَذْهب ضحيَّة ل "التطوُّرات". وأحسبُ أنَّ المتوفِّرين على حياكة وتدبير "المؤامرات السياسية" هم الذين لهم مصلحة حقيقية في جَعْل الناس يكفرون ب "نظرية المؤامرة"، فَمِنْ غير ذلك يَصْعُب عليهم ويَشُق النجاح في مؤامراتهم، ف "المؤامرة" هي جزء من السياسة، وإنْ كانت لا تَعْدلها.
في الظاهِر، أي في ظاهِر ذاك الصراع، ليس ثمَّة ما يبعث على التطيُّر منه، ومن عواقبه، فالجيش اللبناني، الذي تواضع كل الخصوم (اللبنانيون، والفلسطينيون، والعرب، والإقليميون، والدوليون) المختصمون في كل أمرٍ، على دعمه ومؤازرته إنَّما يخوض صراعا (لَمْ يُرِدْه ولَمْ يسعَ إليه) ضد جماعة إرهابية صغيرة، ليست بفلسطينية إلا في النَّزْر من أعضائها، اعتدت عليه، ونالت من هيبته وكرامته، زَرَعَتها أيادٍ شيطانية في "المخيَّم"، فاختطفته كما تُخَتَطف طائرة بركَّابها، ولا بد للجيش، بالتالي، من القضاء عليها، وإنْ كان حرصه على سلامة "المُخْتَطَفين" يُعَقِّد مهمته.
في هذا الذي نراه من مشهد الصراع ليس من أمر يبعث على التطيُّر إلا "المعاناة الإنسانية".. معاناة المهجَّرين من أهل مخيم نهر البارد، ومعاناة من بقي من أهله فيه؛ وبعضٌ من هؤلاء يمنعه "قنَّاصة" من المغادرة، وكأنَّ نجاح المؤامرة يستلزم بقاء جزء كبير من "الركَّاب" في الطائرة المخطوفة!
هنا، وهنا فحسب، يكمن "طرف الخيط"، فالجيش إمَّا أن يضطَّر إلى اتِّخاذ "المجزرة" وسيلة ل "الحسم العسكري"، ف "ينتفض" اللاجئون الفلسطينيون (في لبنان) جميعا، مع ما يترتَّب على ذلك من نتائج وعواقب، وإمَّا أن يصبح في حالٍ قتالية وعسكرية وسياسية تُنْهيه بوصفه القوَّة التي عملت حتى الآن بما يجعلها عقبة في الطريق المودِّية، أي التي يجب أن تؤدِّي، إلى هدم أشياء كثيرة لا بدَّ من هدمها حتى يُبْتنى من "الأنقاض" الشرق الأوسط الجديد.
الجيش اللبناني، وعلى ما تدعونا "نظرية المؤامرة" إلى القول به، يجب أن تُسْتَنْزَف قواه، عسكريا وسياسيا ومعنويا، في معركة مخيم نهر البارد، وفي معارك مقبلة من نمط مشابه، وفي حرب تشبه "حرب الكل ضد الكل" في العراق، والتي في مناخها تزدهر أعمال "فرسان مالطا" و"بلاك ووتر".
لبنان "العاجِز أمنيا في جنوب نهر الليطاني" جاء ب "التدويل" لأمنه الجنوبي (اليونيفل). ولبنان "العاجِز سياسيا ودستوريا" جاء ب "التدويل القائم على الفصل السابع" ل "المحكمة" التي ستُحاكِم قتلة الحريري. ولبنان "العاجِز أمنيا (عمَّا قريب) في شماله (وفي مناطق أخرى)" سيجيء ب "التدويل" لِمَا بقي من أمنه، ف "قوَّة دولية" ستأتي لدرء مخاطر هذا العجز، وستبدأ عملها ب "مراقبة" حدوده، شمالا وشرقا، فالأسلحة، والإرهاب، والمخاطر الأمنية، تُهرَّب عبرها.
لقد مَنَع الجيش اللبناني "الاقتتال"، و"الفوضى الخلاقة" التي ينبغي لهذا الاقتتال أن يأتي بها، ف "تقرَّر" الزج به في "حرب تغيير العقيدة"، وهل من خصم أفضل من هذا الخصم.. جماعة "فتح الإسلام"؟!
لبنان يجب إغراقه في "حرب الفوضى الخلاقة"، التي بدأت في مخيم نهر البارد، وفي نيويورك حيث تقرَّرت "محكمة الفصل السابع"، والتي ستَّتخِذ الخلاف المقبل على رئاسة الجمهورية وقودا جديدا لها. وهذا "التدويل" الزاحف يجب أن يثمر، في آخر المطاف، حلا لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يتعادل فيه التوافق مع "رسالة الضمانات" مع الانتهاك لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الرقم 194.