الثورة المباركة فتحت الباب لإنقاذ مصر وإصلاح (الخرابة) التي أورثها لنا النظام المخلوع. والواقع أن مصر في حاجة إلى جهود عظيمة، وعمل جاد لإعادة بناء الدولة بالمنهج العلمي.. ويبدأ ذلك بإجراء مسح شامل لكل القرارات والتصرفات الخاطئة أو الغبية، التي فرضها هذا النظام، وإعادة النظر فيها مع وضع النظم القانونية والإدارية المطلوبة للإصلاح. ومن أكبر جرائم النظام المخلوع؛ الخضوع لإرادة الحلف الصهيوأمريكي بتجريد مصر من كل عوامل القوة والمنعة، على عكس التوجيهات القرآنية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ .... الأنفال- 60). ولا يختلف اثنان على أن من أهم عوامل القوة التسلح بالعلوم والتقنيات الحديثة والمتقدمة وعدم السماح بالتخلف عن أي ميدان علمي، لأن العلوم تخدم بعضها بعضا، وهي شرط أساسي للتنمية والنهضة. ونتحدث في هذا المقال عن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وكيف خضع النظام المخلوع للمخطط الصهيوني بوقف البرنامج النووي المصري. وقد حدث ذلك في الخفاء، وبأسلوب منافق مخادع، من خلف ظهر الشعب؛ إذ لم يعلن النظام مثلا (ولو بالكذب) أنه غير مقتنع بالطاقة النووية أو أن مصر ليست في حاجة لها، ليوقف بالتالي ما ينفق عليها من أموال الشعب!، ولكنه مارس أسلوبا مخادعا ومنافقا بالإبقاء على المشروع شكليا، مع قتله عمليا بتفريغه من مضمونه. وكانت البداية بنقل تبعية هيئة الطاقة الذرية من رئيس الجمهورية (مثل كل البرامج النووية الحقيقية بالعالم)، إلى مجلس الوزراء، ثم إلى وزير الكهرباء!. وترتب على هذا الانحدار الشديد والإهمال المتعمد تفكك هيئة الطاقة الذرية بانفصال قسم الجيولوجيا والخامات الذرية وتكوين هيئة أخرى (مستقلة) هي هيئة المواد النووية. ثم أنشأت هيئة (مستقلة) أخرى هي هيئة المحطات النووية، التي أريد لها أن تنفرد بالبرنامج النووي المزعوم.. مع التجاهل الكامل للهيأتين الأخريين وكل الكوادر التي أنفقت الدولة (دم قلبها) في تدريبها!. وجاري الآن تكوين هيئة نووية رابعة (اقتطاعا من الهيئة الأم) وهي هيئة الأمان النووي. ولم يقتصر الأمر على هذا العبث والتشريد (هيئة المواد النووية انتقلت تبعيتها عدة مرات؛ بين هيئة الطاقة الذرية ووزارة الصناعة، ووزارة الكهرباء!)، ولكن تعمد النظام التقتير على الهيئة الأم، لدفع العلماء إلى الهجرة، وهذا ما حدث. والمطلوب فورا- لتصويب هذه الأخطاء وإعادة الحياة إلى البرنامج النووي - إلغاء قرار نقل تبعية هيئة الطاقة الذرية إلى وزير الكهرباء وإعادتها إلى رئيس الجمهورية كما كانت عند إنشائها، وكما هو موجود بكل الدول النووية.. مع إعادة توحيد كل هذه الهيئات النووية، سواء بعودتها إلى الهيئة الأم أو بإنشاء كيان جديد يضم الجميع وليكن (أكاديمية العلوم النووية)، على غرار أكاديمية البحث العلمي. ويتطلب الإصلاح القضاء على سياسة التعتيم التي اعتمدها النظام المخلوع لإحاطة البرنامج النووي بالغموض وبالتالي الخوف، لكي يسهل القضاء عليه.. إذ يجهل الكثيرون للأسف مسألة الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وفوائدها وأهميتها وأمانها. وهذا موضوع في غاية الأهمية لأن برنامجا طموحا كهذا لابد أن يحظى بالفهم الصحيح وبالرضا الشعبي والاطمئنان الكامل لإمكانية التشغيل الآمن وانعدام احتمالات التلوث والإضرار بالإنسان والبيئة. ولن يتأتى ذلك دون وعي وفهم وإدراك لحقيقة الأمر، فضلا عن الشفافية والصراحة الواجبة في مثل هذه الأمور. ولا شك أن هذا التعتيم كان أحد أقوى الأسباب لحدوث كارثة الضبعة، التي لا نشك في وطنية أهلها.. ولكنهم لا يعلمون شيئا عن أهمية هذا المشروع، ولم يسمعوا إلا عن سلبيات الطاقة النووية، والمخاطر المزعومة للتلوث والإصابة بالأمراض. وربما لا يعلم الكثيرون أن مصر كانت من أوائل الدول التي بادرت- قبل كثير من الدول النامية التي تسبقنا الآن- إلى المشاركة في السباق العلمي والتقني للاستفادة من الطاقة النووية واستخداماتها السلمية منذ أن أسست لجنة الطاقة الذرية (برآسة عبد الناصر شخصيا) عام 1955. وإذا ما استعرضنا الأحداث المختلفة- المتلاحقة- التي مر بها البرنامج النووي المصري؛ نشعر على الفور، ورغم كل ما حدث، بأهمية هذا المشروع وبأنه ظل حيا في وجدان وضمير الشعب المصري، الذي لم يكن يعلم ما يدبره المخلوع بالخفاء. فقد أنشأت لجنة الطاقة الذرية بعد 3 سنوات فقط من تحرك الجيش والتخلص من الملكية عام 1952. وفي يوليو 1956 أبرمت مصر اتفاقا ثنائيا مع الاتحاد السوفيتي.. وفي سبتمبر من العام نفسه وُقع عقد إنشاء المفاعل البحثي الأول.. وفي يوليو 1957 أنشأت مؤسسة الطاقة الذرية، وفي العام نفسه أصبحت مصر عضوا مؤسسا بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما حصلت على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك.. وفي عام 1961 بدأ تشغيل المفاعل البحثي الأول. وعلى الرغم من حداثة عهد مصر بالتقنية النووية في هذا الوقت فلم يتوقف الطموح المصري عند البحوث النووية، وبدأ التطلع الفعلي الجاد إلى الاستفادة الكاملة من الطاقة النووية بعد سبع سنوات فقط من إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية.. إذ أعلن في 1964 عن مناقصة لإنشاء محطة نووية بقدرة 150 ميجاوات لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر (20000 متر مكعب يوميا)، وهذا يؤكد قمة الطموح المصري المبكر لعدم التخلف عن العصر والتأكيد على حقنا في امتلاك هذه التقنية.. ولكن للأسف؛ فقد توقف المشروع بسبب عدوان 1967. في دعوتنا للبدء في إصلاح ما خربه النظام المخلوع؛ انتهينا في المقال السابق إلى أهمية إعادة الاعتبار للبرنامج النووي المصري؛ بإلغاء قرار النظام المخلوع بنقل تبعية هيئة الطاقة الذرية من رئيس الجمهورية إلى وزير الكهرباء.. لتعود مصر إلى وضعها المتميز الذي كانت عليه في الستينيات، وأيضا إعادة توحيد الهيئات النووية المتعددة أو إنشاء كيان جديد يضمها جميعا، وأوضحنا أن مصر كانت متجهة بقوة وجدية للاستفادة من الطاقة النووية بالإعلان في 1964 عن مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، ولكن المشروع توقف بسبب عدوان 1967. ونواصل السرد التاريخي ليعلم الشعب وأولي الأمر حقيقة هذا المشروع الكبير وأهميته بعد انتصار 1973 مباشرة.. عاد المشروع بقوة؛ بالإعلان عن مناقصة في 1974 لإنشاء محطة نووية بقدرة 600 ميجاوات بسيدي كرير، ولكن للأسف توقف المشروع مجدَّدا حرصا على السيادة المصرية؛ عندما طلب الجانب الأمريكي حق التفتيش على المشروع المصري. وفي عام 1981 انضمت مصر لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لتبديد المخاوف الغربية من البرنامج المصري، والتأكيد على أنه سلمي الغرض منه المساهمة الفعالة في عملية التنمية.. وبعد ذلك مباشرة، وقبل أن يتزايد خضوع الرئيس المخلوع للضغوط الغربية والصهيونية، أي في 1983؛ تقرر تخصيص جزء من عائدات النفط لتغطية إنشاء محطة الضبعة.. وفي العام التالي وقعت مصر اتفاقية للتعاون النووي مع كندا، وأخرى مع استراليا. في هذا الوقت تزايد التفاؤل الشعبي بقرب قطف ثمار الجهود المصرية المتواصلة لتأسيس البرنامج النووي.. ولكن نية النظام المخلوع لم تكن بريئة. إذ استغل حادث تشيرنوبل في 1986 ليوقف العمل في محطة الضبعة، وحدث كمون نووي مصري عقب هذه الحادثة- دون مبرر- لست سنوات كاملة، أعقبها في 1992 نجاح المناضلين بهيئة الطاقة الذرية في توقيع عقد إنشاء مفاعل مصر البحثي الثاني بقدرة 22 ميجاوات، مع الأرجنتين.. ولم يعترض النظام لأن الضغوط الغربية تتركز أساسا على مفاعلات القوى، وليس مفاعلات الأبحاث. وبإنشاء هذا المفاعل عاد الأمل لعلماء مصر، وعاد الحديث عن البرنامج النووي مجددا، حتى بدأ القرن الجديد بتغيراته العالمية وعولمته وتزايُد خضوع النظام المصري، ليعود المشروع إلى الكمون. وفي 2007؛ عاد المشروع فجأة إلى الأضواء دون أية مقدمات، وفى اتجاه معاكس تماما لما كان عليه الوضع قبلها ببضع سنين، بعد نشر تقرير المجالس القومية المتخصصة بوجوب البدء فورا في تنفيذ محطة الضبعة والتحذير من عواقب التأخر في ظل التوقعات بنضوب النفط والغاز مع الزيادة الهائلة في الاستهلاك.. ولكن تبين أن هذا الحراك النووي الحكومي كان مجرد خدعة لتلميع ابن المخلوع تمهيدا للتوريث!، وأدارت حكومة المخلوع وحزبه مسرحية كبيرة لإقناع الشعب المخدوع بأن مصر ما بعد التوريث ستكون (نووية) قوية. ويظن الكثير من عامة الناس خطأً أن الحديث عن البرنامج النووي يعني الحديث عن الاستخدامات العسكرية.. فيصاب البعض بالنشوة والشعور بالعزة، ويصاب آخرون بالخوف من الدخول في مشكلات مع القوى العالمية المتربصة بنا، وللأسف يجهل الكثيرون مسألة الاستخدامات السلمية وفوائدها وأهميتها. ومن المهم ان يدرك المجتمع أهمية التقنية النووية، وهل نحن بالفعل في حاجة إلى الطاقة النووية لإحداث طفرة تنموية وحضارية كبيرة؟. يجب أن يعلم الناس أهميتها (كمصدر هائل ورخيصة ونظيف للطاقة) في توليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، وتشخيص وعلاج الأمراض السرطانية وغيرها، واقتفاء الأثر والكشف عن الجريمة، وتعقيم الأدوات، وحفظ المواد الغذائية، ومقاومة الحشرات.... وغير ذلك من التطبيقات العلمية والصناعية والزراعية التي لا يمكن الاستغناء عنها في العصر الحديث، والمهم أن كل هذا يتم دون إضافة الملوثات التقليدية للبيئة. ولعل أهم فوائد البرنامج النووي السلمي بالنسبة لمصر الآن وفي المستقبل هي توليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، بالإضافة إلى وضع أقدامنا على أعتاب تقنية متقدمة تعتبر قاطرة لتقنيات أخرى وتؤدي إلى التقدم في أغلب المجالات الصناعية والتقنية. فالحصول على كهرباء رخيصة ونظيفة سوف يساعد على إحداث تنمية سريعة ذات عائد اقتصادي مغري لأن الكهرباء صارت في أساسا لأي تقدم وشرطا للتنمية. وعلى الرغم من توافر كهرباء نظيفة من السد العالي، إلا أنها لا تكفي خططنا التنموية ونضطر لاستخدام محطات حرارية تلوث البيئة وتهدر ثروتنا النفطية. أما الكهرباء النووية فقد ثبتت جدواها اقتصاديا ونظافتها بيئيا لأن الطاقة النووية تعتمد على الطاقة الكامنة داخل المادة، وليس على حرق مواد كربونية ملوثة مثل كل أنواع الوقود الأحفوري المتوافرة حاليا، والمهددة أيضا بالنضوب. والسعي للاستفادة من الطاقة النووية في تحلية مياه البحر مشروع جذاب لأن مصر تقع على بحرين كبيرين وتمتلك في الوقت نفسه صحراء شاسعة قابلة للاستصلاح إن توافرت المياه. فالصحراء المصرية تتميز بأنها مسطحة ومستوية في أغلبها، والطقس فيها معتدل (وليس حارا جدا مثل الإمارات مثلا- التي تزرع الصحراء رغم شُح المياه). وعندما تتوافر المياه الرخيصة (من المحطات النووية) فلن يكون هناك ما يمنع من زراعة الصحراء المصرية وتغيير الواقع الاقتصادي تغييرا جذريا، فلدينا الخبرة الزراعية التاريخية، والطقس المعتدل، والصحراء الواسعة.. ولا تنقصنا سوى المياه. كما أن هناك إمكانية كبيرة لتحويل الأراضي الصحراوية إلى أراضٍ زراعية لا تقل عن أراضي الدلتا بنقل طمي النيل من المخزون الهائل ببحيرة السد العالي إليها.. ولا شك أن مشروعا كهذا سوف يضع مصر في مصاف الدول الغنية. همسة · ليت وسائل الإعلام- المُقصّرة في تأسيس إعلام علمي- تكف عن تضليل الرأي العام فيما يخص البرنامج النووي.. يجب التدقيق في اختيار المتحدثين في الشؤون العلمية والتقنية، والبعد عن الإفتاء بغير علم. وعلى الحكومة حماية منطقة الضبعة ومنع تجار الأراضي من التشويش على المشروع، حتى لا نندم يوم لا ينفع الندم. همسة: · وصلت عدوى تجاهل الهيئة النووية الأم (هيئة الطاقة الذرية) من حكومات المخلوع إلى مجلس الشعب (برلمان الثورة).. إذ عقدت لجنة الصناعة والطاقة جلسة مع (خبراء الطاقة النووية) لمناقشة البرنامج النووي، لم يحضرها أحد من هذه الهيئة، رغم ترشيح نقابة المهن العلمية لعدد منهم!.