كان آخر عهدي بجريدة الأهرام قبل الثورة بعدة شهور عندما نشر باب قضايا وآراء مقالا لي فوجئت فيه بتدخل المحرر للتغيير في المقال بحذف (الكيان الصهيوني) ووضع (إسرائيل).. وأنا كما يعرف قرائي لا أحب نسبة اسم نبي كريم لكيان عنصري دموي مجرم، ولم أستخدم مطلقا لفظة إسرائيل، فاغتظت من هذا التصرف الأهرامي غير الأخلاقي وقررت عدم الكتابة بالأهرام. وبعد الثورة ظننت أن الأمور لابد أن تكون قد تغيرت، وأن الأهرام لن تتمسك بكتابات بقايا النظام المخلوع وستفتح الباب لأقلام جديدة وأفكار ثورية، ولكن تبين أنني كنت واهما، وأن كل شيء على حاله. وقد نشرت أهرام يوم الأحد 17 أبريل حوارا مع العالم المصري الدكتور فاروق الباز بعنوان مفاجأة من العيار الثقيل: مصر غير مؤهلة للطاقة النووية.. اعتبر فيه أن إنشاء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء في منطقة الضبعة هو قرار سياسي غير مدروس هدفه أن يكون لدينا طاقة نووية أسوة بإيران التي حفزت الدول العربية علي دخول المجال النووي!. ونظرا لأن هذا الكلام الخطير غير صحيح، وأنه خارج اختصاص العالم الكبير الذي نحترمه، فقد أرسلت هذا المقال للأهرام لتوضيح الأمور وإزالة البلبلة التي سببها للرأي العام الذي تحيره وسائل الإعلام، ولكن جريدة الأهرام لم تنشر المقال رغم قيام صحف عديدة بنشر تحقيقات موسعة بسبب الضجة التي أثارتها جريدة الأهرام، فهي متمسكة بكتاب النظام المخلوع ولا ترضى عنهم بديلا، رغم التغير في قيادتها!، وهذا هو المقال: مع احترامنا للعالم الكبير، فلا أظن أننا في حاجة إلى تذكير سيادته بأهمية التقنية النووية.. كقاطرة لتقنيات أخرى أساسية ومهمة، ومطلوبة لدفع عجلة التنمية، والحصول على مفاتيح التقدم العلمي والتقني عموما. فالتقنية النووية تتميز (إجباريا) بالدقة الفائقة، والحرص الزائد عن الحد، والتنوع والتكامل الواسع بين التخصصات.. والمرافق النووية تكون الميدان الأوسع لتدريب الكفاءات العلمية والتقنية والإدارية، والتي يمكن الاستفادة منها في كافة الميادين بما يسهم في إحداث طفرة تنموية غير مسبوقة. وهذا يؤكد على أهميتها لنا حتى وإن كانت لدينا مصادر أخرى للطاقة، خصوصا ونحن مقبلون على مشكلة مائية خطيرة، لا يمكن مواجهتها دون توافر مصدر رخيص ونظيف للطاقة. وقد بدأت مصر منذ ما يقرب من 60 عاما سعيها لامتلاك هذه التقنية، ونجحت في تكوين النواة الأساسية لها بتربية جيل من الكوادر الوطنية.. ثم بدأ السعي المرة تلو الأخرى لإنشاء محطات نووية.. ولكن، وكأن الأقدار كانت تقف بالمرصاد لطموحاتنا النووية، إذ توقفت المحاولة الأولى بنكسة 1967، وتوقفت الثانية بعد انتصار 1973 حرصا على السيادة المصرية من التدخلات الأمريكية، والثالثة بحادث تشرنوبيل، وها هي الرابعة تتزامن مع زلزال اليابان ومده البحري الذي اجتاح المحطات النووية.. وتسبب في خلط الأوراق وإحداث نوع من البلبلة حول التقنية النووية، رغم عدم وجود أية أوجه للشبه بين مشروعنا ومثيله الياباني. وعلى الرغم من كثرة تعطل تنفيذ هذا المشروع، فقد ظل حيا في وجدان وضمير الشعب المصري.. ولعل الله تعالى أراد لنا أن نتريث حتى تسقط دولة الفرد، وما صاحبها من خراب وعشوائية وتخلف.. لم يكن ليهيئ الفرصة للاستفادة الواجبة من تقنية متقدمة تحتاج إلى دولة واعية، دولة مؤسسات. وإدخال إيران في موضوع النقاش شيء عجيب، لأن مصر في واقع الأمر كانت من أوائل الدول التي بادرت- قبل كثير من الدول النامية التي تسبقنا الآن- إلى المشاركة في السباق العلمي والتقني للاستفادة من الطاقة النووية واستخداماتها السلمية منذ أن أسست لجنة الطاقة الذرية عام 1955. وإذا ما استعرضنا تواريخ الأحداث المختلفة- المتلاحقة- التي مر بها البرنامج النووي المصري؛ نشعر على الفور أنه مشروع مصري أصيل وليس تقليدا لإيران، فقد أنشأت لجنة الطاقة الذرية برآسة عبد الناصر شخصيا بعد ثلاث سنوات فقط من تحرك الجيش والتخلص من الملكية عام 1952. وفي يوليو 1956 أبرمت مصر اتفاقا ثنائيا مع الاتحاد السوفيتي.. وفي سبتمبر من العام نفسه وُقع عقد إنشاء المفاعل البحثي الأول.. وفي يوليو 1957 أنشأت مؤسسة الطاقة الذرية، وفي العام نفسه أصبحت مصر عضوا مؤسسا بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما حصلت على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك.. وفي عام 1961 بدأ تشغيل المفاعل البحثي الأول. وعلى الرغم من حداثة عهد مصر بالتقنية النووية في هذا الوقت فلم يتوقف الطموح المصري عند البحوث النووية (على أهميتها)، وبدأ التطلع الفعلي الجاد إلى الاستفادة الكاملة من الطاقة النووية بعد سبع سنوات فقط من إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية.. إذ أعلن في 1964 عن مناقصة لإنشاء محطة نووية بقدرة 150 ميجاوات لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر (20000 متر مكعب يوميا)، وهذا يؤكد بالطبع قمة الطموح المصري لعدم التخلف عن العصر والتأكيد على حقنا في امتلاك هذه التقنية المهمة.. ولكن وكما أسلفنا؛ فقد توقف المشروع بسبب عدوان 1967. وباقي الأحداث معروف إلى أن وصلنا إلى عام 2007 فعاد الحديث مجددا، ربما- كما يرى البعض- ترويجا لتوريث الحكم، ولكن هذا لا يلغي الحاجة الماسة إلى المشروع، ولا يعفينا من المسئولية عن استثمار الملايين التي أنفقت في الدراسات الخاصة بمنطقة الضبعة، وهي أفضل مكان بلا جدال.. كما جاء بتوصيات الندوة التي عقدتها نقابة المهن العلمية مؤخرا، يوم 16 أبريل 2011. ويظن الكثير من عامة الناس (خطأً) أن الحديث عن البرنامج النووي يعني الحديث عن الاستخدامات العسكرية.. فيصاب البعض بالنشوة والشعور بالعزة، ويصاب البعض الآخر بالخوف من الدخول في مشكلات مع القوى العالمية المتربصة بالدول النامية. وللأسف يجهل الكثيرون مسألة الاستخدامات السلمية وفوائدها وأهميتها.. وهذا موضوع في غاية الأهمية لأن برنامجا طموحا كهذا لابد أن يحظى بالفهم الصحيح وبالرضا الشعبي والاطمئنان الكامل لإمكانية التشغيل الآمن وانعدام احتمالات التلوث والإضرار بالإنسان والبيئة.. وهذا لن يتأتى دون وعي وفهم وإدراك لحقيقة الأمر، فضلا عن الشفافية والصراحة الواجبة في مثل هذه الأمور. والأهم من ذلك هو ضرورة الإجابة عن السؤال المهم: هل نحن في حاجة إلى الطاقة النووية لإحداث طفرة تنموية كبيرة؟. ولعل أهم فوائد البرنامج النووي السلمي بالنسبة لمصر الآن وفي المستقبل هي توليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، بالإضافة إلى وضع أقدامنا على أعتاب تقنية متقدمة تؤدي بطبيعتها إلى التقدم في أغلب المجالات الصناعية والتقنية. فالحصول على كهرباء رخيصة ونظيفة سوف يساعد على إحداث تنمية سريعة وذات عائد اقتصادي مغري لأن الكهرباء صارت في عصرنا الحاضر أساسا لأي تقدم وشرطا للتنمية. وعلى الرغم من توافر كهرباء نظيفة من السد العالي، إلا أنها لا تكفي خططنا التنموية ونضطر لاستخدام محطات حرارية تلوث البيئة وتهدر ثروتنا النفطية. أما الكهرباء النووية فقد ثبتت جدواها اقتصاديا ونظافتها بيئيا لأن الطاقة النووية تعتمد على الطاقة الكامنة داخل المادة، وليس على حرق مواد كربونية ملوثة مثل كل أنواع الوقود الأحفوري المتوافرة حاليا، والمهددة أيضا بالنضوب. وإذا كان وصف الدكتور فاروق الباز لهيئة الطاقة الذرية بأنها (على قد حالها) ينطبق على البنية الأساسية المهملة من قبل الدولة مثلها مثل باقي المراكز البحثية، فإن الثروة البشرية من الكوادر النووية الوطنية لا ينطبق عليها هذا الوصف، بدليل أن المئات منهم يديرون المفاعلات النووية بدول الغرب بعد أن اضطرتهم سياسات النظام المخلوع إلى الفرار من الوطن. أما موضوع الخشية من التلوث في حالات الحوادث فليس له ما يبرره لأن المفاعلات تحيط بنا، والتلوث- إن حدث- ليس له وطن.. كما أن المفاعلات الحديثة مؤمّنة تماما، وآلية كليا، ومساهمة العنصر البشري فيها أصبحت ضئيلة. [email protected] http://abdallahhelal.blogspot.com