يوم آخر مضي دون أن يصدر بيان رسمي يحترم عقولنا ويكشف الحقائق ويفك طلاسم النكسة التي أصابت مصر والمصريين من جراء القرار الغامض والمفاجيء بسفر المتهمين الأجانب- الأمريكيين تحديداً- في قضية منظمات التمويل الخارجي. ومما زادنا حزنا علي حزن أن الطعنة التي ألمت بنا خرجت بكل ملابساتها من الدائرة السياسية إلي الدائرة القضائية.. بمعني أنها أصبحت مشكلة قضائية تمس شرف ونزاهة واستقلال وشموخ القضاء المصري الذي نفخر به. وتبين من الاخبار التي تنشرها الصحف والتسريبات التي تكتظ بها المواقع الالكترونية ان صفقة تسفير- أو تهريب- الامريكيين شارك فيها قضاة.. وأخرجها قضاة.. كانوا يعرفون جيدا أن الاجراءات غير طبيعية وتتعلق بترتيبات لم يتم اعداد المسرح لتقبلها وتفهمها. وفي المقابل كان هناك رجل رائع يستحق التحية والاكبار وهو المستشار محمود شكري رئيس محكمة جنايات القاهرة الذي نأي بنفسه عن الصفقة برمتها.. وأعلن تنحي المحكمة عن نظر القضية.. وبشجاعة قال في قرار التنحي ان ما دفعه إلي ذلك انه تلقي اتصالا هاتفيا من رئيس محكمة الاستئناف المستشار عبدالمعز إبراهيم دعاه إلي إلغاء القرار الخاص بمنع المتهمين الامريكيين من السفر.. وهو ما اعتبره تدخلا في صلاحياته ومساسا باستقلاله غير مقبول. وقد حاول المستشار عبدالمعز ربط موضوع التنحي بعلاقات لنجل المستشار شكري الذي يعمل محاميا مع السفارة الامريكية.. لكن هذا الادعاء لم يصمد طويلا.. لأن توابع الزلزال أكدت أن المسألة أكبر من ذلك.. وان الترتيبات كانت جاهزة. والآن ثبت أن القضاء المصري الذي تم توريطه في الصفقة اصابته طعنة نجلاء سوف تظهر آثار جراحها تباعا.. وللاسف تورطت أطراف قضائية في تسديد هذه الطعنة.. وهي تعلم حجم الكارثة وتعلم أنها لن تمر بسلام. وبالفعل.. نحن الآن أمام ثورة حقيقية للقضاء المصري سوف تعصف بكل من تورط وشارك من أجل الحفاظ علي ثوب القضاة نظيفا طاهراً.. ولكي يظل القضاء الشامخ جديراً بثقة الشعب واحترامه.. ولكي تدرك أمريكا جيدا أن القضاء المصري يمكن أن يخطيء لكنه لن يفسد ولن يفقد استقلاله. في هذا الاطار نشرت الصحف اخبار انتقاضة نادي القضاة ضد كل من تورط في تمرير الصفقة.. وقدم طلبا رسميا للمستشار حسام الغرياني رئيس المجلس الأعلي للقضاء للتحقيق مع المستشار عبدالمعز ومع القضاة الذين أصدروا قرار إلغاء حظر سفر المتهمين الامريكيين.. كما دعا قضاة تيار الاستقلال بالنادي إلي عقد جميعة عمومية طارئة اليوم- الأحد- لسحب الثقة من المستشار عبدالمعز واحالته إلي التحقيق فورا. وبقدر ما كانت الصفقة إهانة للشعب المصري بأكمله فان ثورة القضاء جاءت لترد الاعتبار للشعب وللقضاء معا.. ليس في مواجهة السلطة التنفيذية فحسب وانما أيضا في مواجهة من تورط ومن صمت ومن قدم الاقتراحات وأخرج السيناريو من أسرة القضاء أنفسهم. لقد شاهدنا- للاسف- آخر فصل من فصول طغيان السلطة التنفيذية علي السلطة القضائية.. وقرأنا آخر ورقة في سجل المتطوعين والمنقادين وترزية القوانين: ولا شك أن ثورة القضاء ستجعل من الصعب.. بل من المستحيل تكرار هذه التجربة المؤلمة.. فمصر الثورة لم تعد تحتمل مثل هذه الألاعيب التي تمر من وراء الشعب.. ولم تعد تحتمل أي غموض واخفاء للحقائق. يبقي بعد ذلك الدور علي مجلس الشعب الذي يجب أن يثور هو الآخر ويكشر عن أنيابه.. حتي نتأكد أننا نعيش أجواء الثورة.. وذلك بالطرق علي الحديد وهو ساخن.. من أجل ذلك يجب أن تناقش طلبات الاحاطة والاستجوابات المقدمة من النواب علي وجه السرعة في هذا الموضوع.. لكي يعبر المجلس عن غضبة الشعب المصري الذي لن يقبل بعد اليوم أن يكون مجرد متفرج علي الأحداث. ولابد ان يصر المجلس علي طرح الحقائق كاملة علي المواطنين حتي نعرف حجم وطبيعة الدور الذي قام به المجلس العسكري وحجم وطبيعة الدور الذي قامت به الحكومة.. وحجم وطبيعة الدور الذي قام به المستشار عبدالمعز رئيس محكمة استئناف القاهرة. الشعب المصري لم يعد قاصراً.. ومهما كانت صعوبة التحديات والتهديدات والضغوط فهو قادر علي أن يصمد ويتحمل ويشارك في المسئولية.. ولكن بشرط أن يعرف الحقيقة.. ولا يتصور أحد أنه سيضحك عليه بكلمتين.