قصة جديدة من الحياة رشحها للنافذة القارئ الصديق "أحمد جعفر" من المنوفية واتخذ لها عنواناً "كفاح ونجاح" تاركاً لي في رسالته عبر الفاكس نبذة عن صاحبها ورقم هاتفه لمزيد من التواصل والابحار في عالمه المليء بالتحديات والنجاحات.. ظللت أسأله وهو يجيب والفرحة تغمر صوته طوال مكالمتي معه.. عرفني بنفسه: اسمي "عماد الفالوجي" من أبناء مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية.. عمري 45 سنة متزوج وأب لثلاثة أبناء بمراحل التعليم.. زوجتي سيدة مثقفة وحاصلة علي مؤهل عال وهو ما تمسكت به عند اختياري لشريكة عمري حيث عشت مأساة لاتمام تعليمي وهذا لب قصتي فقد نشأت في عائلة منضبطة.. الأب ترزي عربي ماهر في مهنته والأم لديها إصرار كبير علي تعليمي أنا وأخوتي الأربعة وترتيبي بينهم الثاني.. وذات يوم فوجئت بوالدي يطلب في حضوري إليه بالمحل وظننت أنه سيمنحني مكافأة علي تفوقي في سنة "خامسة" وقرب حصولي علي الشهادة الابتدائية مثل أخي الأكبر لكنه حدثني بما دارت له رأسي وهز كياني أخبرني بالتالي: "من اليوم أنت معي في المحل.. وانس المدرسة"؟!! هرولت لأمي باكياً مهزوماً وهي التي تعلم بتفوقي وكفاءتي في التحصيل والدرس فحاولت إثناء أبي عن قراري و.. ورفض ولا أعرف كيف أصف لك حالتي النفسية حينما كنت أعود آخر النهار - بعد يوم عمل شاق - وأري الكل في البيت عاكفاً علي دروسه.. ولا أجد سوي غرفتي أغلق عليها بابي واستغرق في بكاء مرير!! حالة لم أفق منها إلا بعد أن عقدت العزم علي إرضاء والدي والتزام العمل معه عسي أن يتغير موقفه ويتحقق أملي باستكمال الدراسة والالتحاق بكلية الحقوق فكم أتطلع أن أكون سفيراً أو دبلوماسياً. ..وتستمر المكالمة: تصوري سيدتي في أقل من ثلاث سنوات كنت عند ثقة أبي ونجحت في تفصيل أول قطعة قماش وحياكتها بالكامل.. وبعد فترة وجيزة صرت قادراً علي إدارة المحل وتسيير أموره. وعندما اشتد عودي وحظيت بثقة والدي واتتني الشجاعة أن أسأله عن سر اختياره لي دوناً عن إخوتي للعمل معه أجابني: لمحت فيك نفسي والذكاء فوجدتك أفضل من يتحمل معي المسئولية. كلماته حفزتني لكي أصارحه - وكنت في التاسعة عشرة من عمري - بقراري وهو استكمال دراستي إلي جانب المهنة فلم يمانع خاصة وهو يري اخوتي يصعدون دراسياً وأنا "محلك سر".. وعلي الفور حصلت علي شهادة محو الأمية كشرط للإلتحاق بالصف السادس الابتدائي من منازلهم.. وبالفعل نجحت في الابتدائية بمجموع كبير ألحقني دون عناء بالمرحلة الاعدادية التي درست عامين فيها أثناء فترة خدمتي العسكرية وبعد انتهائي منها جاءني عقد عمل بالسعودية كأمين مخزن ما حال دون دخولي امتحان الاعدادية.. سافرت وأمضيت هناك خمس سنوات متصلة حتي أدخر ما يعييني علي الزواج والاستقرار عند العودة ودون تحميل أبي أكثر من طاقته.. وأنجزت ما كنت أريده وعدت لأتزوج من احدي قريباتي واشترطت كما أسلفت أن تكون جامعية ليس من أجل اعانتي مستقبلاً في تعليم الأبناء وإنما في مساندتي أنا علي استئناف دراستي وتحقيق حلمي بالتخرج في كلية الحقوق. يواصل: وكانت خير زوجة تشد من أزري رغم الأعباء الكثيرة الملقاة علي عاتقها خاصة بعد قدوم الأبناء بفضل الله - حتي انتهيت ولا تتعجبي من دراستي للثانوية العامة والثانوية الفنية معاً فكم كنت أخشي أن أحصل علي مجموع صغير يبعدني عن الالتحاق بكلية الحقوق وقلت في نفسي "أمسك العصا من النصف".. وأكرمني الله بمجموع فتح لي الطريق للكلية التي طالما تمنيتها وتعلقت بها روحي حتي استردتها هذا العام فقد حصلت علي ليسانس الحقوق لأشعر كمن يولد من جديد.. أب يفخر به أبناؤه ومواطن يستعيد مكانته الاجتماعية. وهنا توقف قليلاً ثم استأنف مبدياً أسفه وألمه علي المواقف التي تعرض لها وجعلته أشد حرصاً علي إتمام دراسته قال: اسمحي لي أن أشير إلي بعض منها وأنقله لقرائك فقد رأيت أن نظرة المدرس - مثلاً - لولي الأمر المثقف تختلف عن نظرته لغير المتعلم وينعكس ذلك علي معاملته مع هذا التلميذ أو ذاك! رأيتها أيضاً مع عذابي في إنهاء أوراقي الرسمية حتي في مهنتي التي أحببتها عن أبي - رحمه الله - وصرت أُميز بين الزبون المتعلم والمختلف عنه.. واستشعرتها بمنتهي الفرحة في عيون زوجتي وصغاري وأنا أتسلم بطاقتي الجديدة "الرقم القومي" مسجلاً فيها المؤهل: "ليسانس حقوق". ** في نهاية مكالمتي معه سألته: .. والآن بماذا تحب أن يخاطبك الناس ب"عماد الترزي" أم "بالمتر عماد"؟ أجابني دون تردد كلاهما يسعداني فالأول أعتز به والثاني أعاد إلي روحي وهو يضعني في المكانة التي تليق بمن أحب العلم وعشقه مثلي فكلاهما أنا بلا فخر. نعم من حقك أن تزهو بنفسك وقد وضعت لمستقبلك هدفاً ولم تحيد عنه للحظة رغم طول الأيام والسنين ولن أزيد في تعليقي اليوم عن ذلك باستثناء توجيه التحية للشاعر "أحمد جعفر" الذي جعلنا نتواصل مع هذا النموذج الرائع لإنسان أدرك أن قيمته الحقيقية في الحياة هي بقدر نصيبه من العلم وبقدر ما يتقنه من عمل.. والنافذة مفتوحة لتلقي ماعند القراء من قصص نجاح يحتذي بها.. فلا تترددوا.