يحسب الكثيرون أن الحديث عن الأزمة الجارية بين جموع الصحفيين ونقابتهم من ناحية ووزارة الداخلية المصرية من ناحية أخرى هو حديث خاص وأن الصحفيين يحاولون إشغال الرأي العام بقضية خاصة لا علاقة لقطاعات الشعب المطحون بها وأن هذه القضية الخاصة يتم تضخيمها بهدف إلهاء الشعب عن قضايا أخرى أكثر سخونة وخطورة ومن ثم وفي إطار هذا السياق رأينا حالة من شبه التوافق بين فرقاء الوطن حملت الكثير من مشاعر الاستياء تجاه الصحفيين ونقابتهم. وعلى الرغم من تباين منطلقات هذه المشاعر غير أنها في نهاية الأمر مثلت انحيازا لسياسات السلطة في التعاطي مع الأزمة ما أضعف بشكل ملحوظ من موقف الصحفيين الذين كانوا يعتمدون دائما وأبدا في الانتصار خلال معاركهم على دعم وتأييد الظهير الشعبي الذي يبدو أنه وحتى هذه اللحظة أعلن أنه لن يقف خلف الصحفيين ولن يتعاطف مع قضيتهم. المؤيدون للنظام السياسي لم يفتأوا يرددوا ما ادعته السلطة وزعمته من أن الصحفيين أرادوا أن يكونوا فوق القانون وأن يكون على رأسهم ريشة إذ كيف لهم أن ينتفضوا ضد تطبيق القانون على اثنين من الصحفيين الذين تورطا في ارتكاب جرائم بعينها فالأولى أن يكون الصحفيون أول من يسعى لتطبيق القانون. والغريب أن مثل هذه الادعاءات خالت على الكثيرين بل وأصبحت هي الأساس الذي تبنوه لبناء موقفهم المضاد للصحفيين والنقابة على الرغم من أنه ادعاء ليس منطقيا وليس عقلانيا كما أنه ليس واقعيا أيضا فبداخل السجون المصريين العشرات من الصحفيين المحتجزين إما على ذمة قضايا وإما احتجاز تعسفي ومن بينهم من كان يوما عضوا بمجلس النقابة وهو الأستاذ مجدي أحمد حسين رئيس تحرير جريدة الشعب ومع ذلك لم تتخذ النقابة ولا أعضاؤها هذا الموقف من السلطة ومن ثم فالإشكالية لا تتعلق مطلقا بتطبيق القانون على أحد أعضاء النقابة وإنما بالطريقة التي تم التعامل بها من قبل وزارة الداخلية مع النقابة . تاريخيا وعرفيا يعلم الجميع أن وزارة الداخلية أو النيابة في حال أرادتا أن تنفذا أمر طلب ضبط وإحضار لأحد الصحفيين كانتا تتواصل مع النقابة حتى تتواصل من جهتها مع الصحفي لكي يسلم نفسه بصحبة محامي النقابة وأحد أعضاء المجلس وهو ما حدث مع العشرات من الصحفيين في السابق ولم يكن ذلك محصورا على القضاء المدني فحسب بل وشمل أيضا القضاء العسكري وأذكر أنه حكى لي أحد زملائنا أنه تم استدعاءه من قبل النيابة العسكرية عبر النقابة فقام نقيب الصحفيين آنذاك الأستاذ إبراهيم نافع باصطحابه لمقر النيابة وقد تم التحقيق مع الزميل ثم تم إطلاق سراحه. مرة أخرى ليس وجه اعتراض الصحفيين يتمثل في رفض تطبيق القانون وإنما في طريقة تطبيقه التي اعتبرها الصحفيون أنها رسالة شديدة السلبية أراد النظام السياسي أن يبعث بها لجموع الصحفيين فعملية الاقتحام جاءت بعد أيام قليلة من انتهاك صريح تم بحق الصحفيين يوم 25 إبريل الماضي حيث قامت الداخلية بمنع العشرات من الصحفيين وبينهم صحفيون كبار من الوصول إلى مقر نقابتهم بل وقامت باحتجاز نحو 46 صحفيا بينهم عضو بالمجلس الأعلى للصحافة ما دفع الكثيرون إلى تبني موقف يرتكز إلى أن ذلك ليس إلا عقابا للصحفيين وللنقابة التي كانت ولم تزل حصنا للحريات يتوجه إليه كل راغب في التعبير عن رأيه بشكل سلمي. ولقد اتسعت دائرة المتعاطفين مع هذا الرأي خاصة وأن النقابة التي أنشئت منذ نحو 75 عاما لم تشهد مثل هذا الحادث فكان اقتحام الأمن لها سابقة تاريخية لم تحدث في عهد الإنجليز أو الملك فاروق أو عبد الناصر أو السادات أو حتى مبارك التي كانت النقابة ومقرها يمثلان في عهده صداعا حقيقيا له إذ لا يزال يذكر الجميع أن سلالم النقابة كان هو نقطة الانطلاق وشرارة الثورة المصرية بل لم يزل يذكر الكثير من الصحفيين والنشطاء تلك المناسبات الاحتجاجية العديدة التي باتوا خلالها على سلالمها يهتفون ضد مبارك ورجاله ومع ذلك لم يجرؤ مبارك ولا وزارة الداخلية على أن يقتحموا النقابة بهذه الطريقة بل أذكر أن أحد عمال النقابة – رحمه الله – حاول مرة وبإيحاء من الجهات الأمنية أن يمسك بأحد النشطاء الشباب من حركة كفاية لتسليمه للأمن فوقف له جميع الصحفيين بالمرصاد. وأما إذا كانوا يقصدون بأن الصحفيين على رأسهم ريشة من الناحية المالية والمادية فهذا أيضا مخالف للواقع والحقيقة فالأمر لا يعدو عن كونه تطبيقا للمثل الشعبي القائل "الصيت ولا الغنى" فكل من يقترب من الصحفيين أو يعرف صحفي عن قرب يدرك واقعه المالي وماذا يتكسب وكيف يعيش فأغلب الصحفيين يعيشون في مناطق شعبية وفي شقق بسيطة بل إن الكثير منهم لا يمتلك سكنه ويسكن بالإيجار وبعضهم يستدين من البنوك بل يمكن لأي شخص أن يذهب للإدارة المالية بنقابة الصحفيين ليتعرف على عدد الصحفيين الذي اقترضوا قروض سكن أو زواج أو غير ذلك . يمكنني أن أقول بكل أريحية أن أغلب الصحفيين من الفقراء ماليا إلا إذا قدر له أن يلتحق للعمل بأي صحيفة أو مؤسسة إعلامية خارج مصر أو رزقه الله عملا مع أحد المكاتب العربية أو الأجنبية داخل مصر ومن ثم فإن من الخطأ الجسيم النظر إلى عدد قليل من الصحفيين الذين قدر لهم أن يعملوا كمقدمي أو معدي برامج بالفضائيات والذين يتحصلون على الملايين من الجنيهات شهريا أو سنويا باعتبارهم النموذج الغالب في أوساط الصحفيين فهذا لا يمت للواقع من قريب أو بعيد. ولا يعني ذلك أنني أتحدث عن مجتمع ملائكي ففي كل مجتمع أشرار وعالم الصحفيين ليس بعيدا عن بقية أصحاب المهن والصناعات فبينهم من يخالفون ضمائرهم ولا يراعون الله فيكون بعضهم تبع لأية سلطة يرددون ما تريد السلطة ويشاركون في عمليات تزييف الوعي ومنهم من يكونون أدوات لآخرين لتحقيق مصالح ضيقة وحسابات خاصة فيملأون بطونهم من المال الحرام ليحققوا الثراء السريع ولو على حساب مستقبل الوطن والشعب. كما لم يختلف حال الكثير من المناوئين للنظام في الموقف من الصحفيين فنجد الكثير وقد بدت منهم الشماتة تجاه الصحفيين بل إن بعضهم عبر وبشكل صريح أن ذلك ليس إلا جزء من سنة الله في الأرض حيث سلط الله الظالمين بعضهم على بعض وهو موقف غريب إلى أقصى درجة أخذ العاطل بالباطل فلم يتم التفريق بين المواقف وخالف قول الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فكون أن هناك عدد من الصحفيين انحازوا لرؤية سياسية بعينها إما وفق اجتهاد خاطئ أو وفق إعمال لحسابات خاصة مرفوضة فلا يعني أن الخطأ والجرم – إن كان – يشمل كل الكيان الصحفي فذلك من عدم العدل وقفز فوق حق الكثيرين الذين كانوا ولا يزالون يمثلون الضمير الوطني ولا يزالوا يحرصون على أن يكونوا بأقلامهم وكلماتهم معبرين عن طموحات الشعب وتطلعاته. كما أنه وبعيدا عن موقف الاتفاق أو الاختلاف مع المناوئين للسلطة فإن موقفهم هذا لا ينم إلا عن عدم نضج سياسي حيث عدم الخبرة في استغلال المعارك السياسية إذ لا يزال يعتقد أغلبهم أن المعارك السياسية تكون بالضربة القاضية رغم أن التاريخ كله أثبت أن هذه المعارك لا تكون إلا بتسجيل النقاط التي في حال تراكمت لصالح طرف من الأطرف يمكنه أن يفوز بجولات الحرب. أدرك كما يدرك غيري الكثير من الصحفيين أن المعركة شرسة لأقصى درجة وأن السلطة تستخدم خلالها كل إمكانياتها بل وتستغل هذا التوافق بين الفرقاء الذين جمع شملهم موقف مضاد من النقابة وصحفييها وإن اختلفت كما أشرنا المنطلقات لكن ثمة نقطتين أساسيتين يجب أن نشير لهما في هذا الاتجاه: الأول أنه لابد من التأكيد الدائم على أن المعركة التي يخوضها الصحفيون ليست معركة خاصة بهم وحدهم وإنما هي معركة تتعلق بمصير الحريات في هذا الوطن فالرسالة التي حملها تصرف السلطة أرادت به أن تقول للجميع إنه إذ كنا قادرين – أي السلطة - على أن نفعل ذلك مع المعنيين أولا وأخيرا بالحرية والتعبير وأصحاب الأقلام والكلمة فما الحال مع آخرين ممن أسموا أنفسهم نشطاء أو غير ذلك .. المسألة إذن ليست قضية اقتحام نقابة أو حتى على أقل تقدير دخولها من جانب الأمن بالطريقة التي كانت عليها للقبض على اثنين من داخلها وإنما القضية أكبر من هذا بكثير فمحيط النقابة فضلا عن مقرها يجب أن لا يكون بديلا للمصريين الراغبين في التظاهر أو الاحتجاج ضد النظام وسياساته فهذا أمر مرفوض البتة وعلى جميع المصريين أن يدركوا ويعوه جيدا أنه لن يتم السماح بأن يتكرر سيناريو ما قبل مبارك. الثاني أن استمرار المعركة ومع مرور الوقت سيساهم بشكل كبير في توعية قطاعات جماهيرية كبيرة بأن ما حاول النظام ترويجه حول أن الصحفيين على رأسهم ريشه ليس صحيحا حيث تتكشف لهذه الجماهير الكثير من الحقائق الغائبة خاصة ما يتعلق منها بأوضاعهم المالية والمعيشية وأنهم من أهل الحظوة وأصحاب الكلمة المسموعة لدى المسئولين. ولعل إصرار السلطة على تجاهل مطالب الصحفيين وعدم الالتفات إليها كان أحد أهم ما لفت نظر الكثيرين الذين أدركوا أن السلطة بالفعل تنظر إليهم بالكثير من الاستخفاف فهي لم تساويهم بالمحامين ولا بغيرهم ممن اضطروا النظام السياسي إلى تقديم الاعتذار أو العمل على استرضاءهم. على المستوى الشخصي لا تشغلني قضية الاعتذار من عدمه وما أيدتها إلا تعاطفا مع الأغلبية من زملائنا خلال اجتماع الجمعية العمومية الحاشدة والتي شارك فيها آلاف الصحفيين بشكل غير مسبوق صدق ذلك من صدقه وكذبه من كذبه فما يمكنني أن أكذب عيناي التي رأيت بهما أعدادا غفيرة من الصحفيين النقابيين الذين عانوا بالأساس عند دخولهم لمحيط النقابة للمشاركة في الاجتماع إذ لم يكن ليسمح رجال الأمن لأحد مهما كان بالمرور إلا إذا كان حاملا لبطاقة العضوية وهو ما عانيته بنفسي والكثير من الزملاء بل إن بعضهم فشل في الدخول بعد أن قرر رجال الأمن في فترة زمنية أن يكون الدخول بالبطاقة الشخصية وبطاقة العضوية ما يدحض قول المدعين بأن عدد كبير من الحاضرين لم يكونوا من أعضاء النقابة. ويساهم في هذا أيضا ذلك الحصار الذي لا زالت تضربه السلطة على نقابة الصحفيين سواء من خلال رجال الشرطة أو عبر من يطلقون عليهم "المواطنون الشرفاء" الذي هم في نظري لا يعدون عن كونهم عنوان للهزيمة فاستمرار وجودهم أكبر دليل على ضعف السلطة وتهافتها كونها تعتمد على هؤلاء الذين تصدر منهم سلوكيات تفضح الكثير من طبيعة بعضهم. أدرك كما غيري أن مجلس النقابة وجموع الصحفيين سيتعرضون لضغوط لا حصر لها من أجل التراجع عن سقف مطالبهم فالسلطة بدأت ومنذ اللحظة الأولى للعمل بكل طاقاتها عبر عدد من الصحفيين على شق الصف الصحفي وظهور الصحفيين بمظهر المختلفين على أنفسهم والترويج بأن ما صدر لا يعبر عن الجمعية العمومية للصحفيين فضلا عن أن الاجتماع لا يوصف قانونيا بأنه جمعية عمومية طارئة.. غير أنه ووفق الحسابات السياسية وطبيعة الظرف السياسي الراهن يمكنني أن أقول إن ما خاضته النقابة وأعضاؤها معركة شريفة وناجحة بمعنى الكلمة حتى لو لم تتحقق فيها المطالب وإن كان ذلك أمر لا يمكن حسمه مطلقا الآن فلا تزال المفاوضات جارية للوصول لحل بصيغ تحفظ ماء وجه النظام وتحقق بعضا مما يرضى الجماعة الصحفية .. لكن مجرد انتفاضة الصحفيين في حد ذاته كان رسالة قوية وشديدة اللهجة للنظام بأن ما حدث ما كان ليمر مرور الكرام وأن النقابة ستظل حاضنة للحرية وللدفاع عن الحرية وأن ما قام به رجال الأمن لن يرهب النقابة ولا أعضاؤها فإن عدتم عدنا وهو ما سيجعل النظام يفكر ألف مرة ومرة قبل أن يقدم على مثل هذه الخطوة مرة أخرى. ريما يراني البعض حالما أو واهما لكنني أقيس الأمر وفق معطيات سياسية تنظر للمسألة من عدة جوانب لعل أهمها أن النظام السياسي أدرك إلى أي مدى أن معركته مع الصحفيين وعلى الرغم منه كان يقصد بها تحقيق أهداف بعينها إلا أنها حققت خسائر فادحة أبرزها أن النظام السياسي فقد ظهيرا قويا وداعما في أوساط الصحفيين بعد أن رأىنا أن أهم من انتقده وهاجمه خلال تلك المعركة هم الصحفيون المحسوبون على الثلاثين من يونيو ودافعوا عن سياسات النظام في مواجهة المناوئين للسلطة من الإخوان المسلمين ومن معهم من الإسلاميين وبقية التيارات والقوى السياسية المعارضة وهي خسارة يصعب عليه تعويضها خلال فترة زمنية قريبة خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية بل والأمنية أيضا تمر بمرحلة في غاية السوء.