لا حديث في مصر اليوم سوى التعليق على حكم محكمة جنايات المنيا بإعدام أكثر من خمسمائة مواطن مصري تظاهروا ضد السلطة بعد واقعة الفض الدموي لاعتصام رابعة العدوية ، وقد أصيب ضابط شرطة في تلك المظاهرات وفي قول آخر أنه توفي ، الحكم دار العالم كله في الساعات الأولى من الصباح وليس مصر وحدها ، ولا توجد وسيلة إعلام دولية معروفة إلا وتوقفت عند الحكم بحالة ذهول واستغراب شديد ، لأنه لا سابق له ، ويذكر العالم بتاريخ بالإعدامات الجماعية التي كان يقوم بها النازي في ألمانيا أو استالين في الاتحاد السوفيتي المنهار ، وهناك إجماع إعلامي دولي على أن الحكم "مسيس" وأنه يأتي كما قالت النيويورك تايمز على موقعها الالكتروني في إطار سعي الحكومة لقمع أنصار الرئيس السابق بقسوة وبوتيرة متسارعة ، حسب قولها ، وفي الداخل المصري كانت الصدمة أكثر لخلفيات الحكم ، لأن القاضي حكم في الواقعة الضخمة بعد جلسة واحدة استغرقت عشرين دقيقة ، وفي اليوم التالي أتى للنطق بالحكم بذبح خمسمائة مواطن عمليا ، لأن الإحالة للمفتي تعني أن حكمه هو القتل بداهة ، فأن تكون هناك واقعة فيها مئات من المتهمين ، ولكل منهم ظروفه وواقعة ضبطه والأحراز التي أتى بها والأقوال التي أدلى بها ومستوى مشاركته في الواقعة وغير ذلك من تفاصيل ، كما لكل واحد منهم الحق في الدفاع والحق في المرافعة أمام الجنايات ، فيتم إلغاء كل هذه الحقوق وتحويل الجلسة إلى حالة شكلية من عدة دقائق ، ثم يتم الحكم بقتل المئات من البشر مباشرة في الجلسة التالية ، هو سلوك مذهل جدا ، ويستحيل أن تدرجه في أي مستوى من المعقولية أو العدالة أو حتى المنطق المجرد ، كذلك مسألة أن تتم محاكمة هذه الأعداد الكبيرة من البشر دون حضور محامين لهم وكأنها جلسة سرية أو قصد منها أن تكون وقائعها خاطفة وسرية ودون فض أحرازها فهذا ما يضفي المزيد من الغرابة على الحكم وعلى سلوك القاضي . هذا الحكم وسرعته والملابسات التي احتفت به أحرجت القضاء المصري بكل تأكيد ، ووضعت الكثير من علامات الاستفهام حول قيمته ومصداقيته داخل مصر وخارجها ، والضجة الهائلة والتي تتمدد كل ساعة حول الحكم دليل كاف ، وهذا هو الخطير في الأمر ، فهذا الحكم أغلب الظن أنه سيتم نقضه ، خاصة وأن كثيرا من المتهمين حوكموا غيابيا ، ولكن الكارثة أنه صدر ، حتى لو تم نقضه ، أن يكون هناك قاض مصري حكم بهذا الحكم لهذه الجموع وبتلك السرعة وتلك الإجراءات ، هذا خطير جدا ، فأنت كمواطن يمكنك أن تشعر ببعض الأمل مع وجود انحراف أو شكوك في شفافية الجهاز الإداري للدولة أو الجهاز الأمني أو حتى المؤسسة العسكرية ، ولكنك ستشعر تلقائيا بعدم وجود دولة من أساسها إذا حدث هذا الانطباع تجاه القضاء ، فهو العمود الأخير في خيمة الدولة كدولة ، فإذا فقد الناس الثقة به أو الاحترام له أو الاطمئنان إلى عدالته ، فهذا يفتح الباب أمام تحول المجتمع إلى غابة ، لا أحد ينتظر فيها حكم القضاء ، وإنما ينهي مطلبه بنفسه أو يفرض رؤيته بما يراه هو مناسبا ، هذا باب للجحيم ، ومن الصعب هنا أو المحال أن يتم التترس بمقولة أن أحكام القضاء لا يجوز التعليق عليها ، لا يمكن أن تأمر بذبح خمسمائة إنسان دفعة واحدة وبصورة جماعية ثم تقول لا أحد يعقب علي أو يعلق ، هذا خيال لا صلة له بالواقع ولا يحل أي إشكال ، لو كنت نبيا من الأنبياء وليس قاضيا فقط وفعلت ذلك لعلقوا عليك بل وتصدوا لك وربما واجهت ما هو أسوأ ، وأنا أعتقد أن مثل هذه الأحكام هي أكثر ما يسيء إلى القضاء من أي نقد آخر من خارج المنظومة القضائية أو من داخلها ، كما أن الصراعات السياسية التي تعصف بالقضاء حاليا تعزز كثيرا من المخاوف على مستقبل العدالة في بلادنا ، فرئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند يقول بأن القضاء مخترق من قوى سياسية مختلفة وأن بعض الأحزاب والجماعات اخترقت القضاء وجندت قضاة وأن هناك مئات من القضاة سيجري تحويلهم للتحقيق والصلاحية على خلفية انتماءاتهم السياسية والدينية ، وإذا كان هذا العدد هو ما تم الوصول إليهم حاليا فيا ترى كم العدد الحقيقي من القضاة الذين ينتمون إلى أنصار السيسي أو أنصار أحزاب أخرى أو يمتلكون موقفا سياسيا وأيديولوجيا معاديا للإخوان مثلا ، وهو ما يجعل المواطن العادي يتساءل : هل سأقوم بالبحث في السيرة الذاتية للقاضي الذي أحال إليه وانتماءاته قبل نظره في قضيتي ، هذه كارثة ، كما أن المستشار هشام جنينه نائب رئيس محكمة النقض السابق ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات حاليا بعد أن كشف عن تورط قضاة في الفساد ، وحذر من استخدام القضاء لتصفية الحسابات السياسية ، قال صراحة أنه يخشى أن يتعرض القضاء لما تعرضت له الشرطة في 28 يناير 2011 ، أثناء الثورة ، عندما استبيحت مقراتها ورجالها وسجونها على النحو الذي نعرف جميعا ، وهو تحذير خطير من رجل قضاء نبيل ومن أشهر من دافعوا عن استقلال القضاء وحصانة رجاله . نحن أمام كارثة ، لها أبعاد اجتماعية وسياسية ، ومثل تلك الأحكام تشحن المجتمع بالمزيد من العنف والكراهية والغضب والقسوة والرغبة في الانتقام والإحساس المتنامي بالظلم وأن الدولة تحولت بجميع أدواتها إلى وسيلة قمع ، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات بشعة جدا لمستقبل البلد ، وربنا يستر .