أحيانا يصعب عليك أن تجد العبارات أو الكلمات التي يمكنها أن تعبر عن المشهد الذي تراه ، من فرط اتساعه أو من فرط عبثيته ، والمتصوفة يقولون : إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ، ونحن الآن نقول : إذا اتسع العبث ضاقت العبارة أيضا ، وما يحدث في مصر الآن هو من هذا النوع من العبث الذي يصعب معه أن تجد الكلمات أو الجمل التي تعبر عنه بشكل كاف ، بطبيعة الحال يأتي الحكم الذي أصدره قاض شاب في الاسكندرية ضد اثني عشر فتاة صغيرات السن ، بعضهن في المدارس الإعدادية ، بالسجن أحد عشر عاما لأنهن شاركن في مظاهرة مؤيدة للرئيس المعزول محمد مرسي ، كأحدث واقعة عبثية تتلف لك أعصابك ، الحكم مذهل وخارج حدود العقل ، وتسبب في إحراج خصوم مرسي أكثر مما أزعج أنصاره ، وكل من كتب أو تحدث عنه من خصوم الإخوان ومرسي حاول أن يجد له مخرجا من فرط حرجه من هذا العبث ، المحامي خالد أبو بكر ، من أبرز معارضي مرسي والإخوان طالب النائب العام بالتدخل لوقف تنفيذ العقوبة مراعاة لأدبيات المجتمع المصري حسب تعبيره الغريب لحين نظر الاستئناف مؤكدا أن الاستئناف قد يلغي الحكم أو يخففه تماما حسب قوله ، والإعلامية اليسارية ريم ماجد ، وهي من أشد معارضي مرسي وجماعته تقول أن هذا الحكم يدعونا لمراجعة قوانا العقلية ، طبعا رسالتها مفهومة رغم التلاعب بالجملة ، وكثير من الإعلاميين والصحفيين والرموز السياسية أبدوا استياءهم الشديد من هذا الحكم / الصدمة ، كما نشر نشطاء على شبكة الانترنت صورا للقاضي الشاب وهو في مسيرة لحركة تمرد ويرتدي شاراتها ويشارك بانفعال وسعادة في التظاهرة ، وهو ما دعى كثيرين إلى المطالبة بحظر نظر القضايا إذا كان القاضي له موقف سياسي ضد المتهمين الحاضرين أمامه ، وهذا من أبسط معايير العدالة ، بعض خصوم الإخوان أصابهم الهلع من الحكم من باب أنه يمثل دعما سياسيا للإخوان وتظاهراتهم ويبرز الصورة التي يريدونها للسلطة الحالية كسلطة انقلاب بكل أدواتها وأجهزتها القمعية وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي موجة واسعة النطاق من الهجاء والسباب والشتائم التي لا تصلح للنشر تجاه الحكم الغريب ، وأنا واثق من أن هذا الحكم تسبب في ورطة كبيرة لمؤسسة العدالة ، وهو خصم جديد من رصيد مصداقيتها عند الناس ، وإذا كان استطلاع الرأي الأخيرة لمؤسسة "زغبي" كشف عن تراجع الثقة بالقضاء المصري فإن المؤكد أنه إذا أجري استطلاع بعد هذا الحكم الخرافي لكشف عن انهيار الثقة بالقضاء المصري بشكل كبير . هذا الحكم أتى في الوقت الذي لم يفق فيه الناس من تحويل شيخ القضاة ونائب رئيس محكمة النقض ورئيس نادي قضاة الاسكندرية السابق المستشار محمود الخضيري إلى محكمة الجنايات بتهمة تعذيب محامي قبل ثلاث سنوات في ميدان التحرير ، أمر القبض عليه واحتجاز القاضي الكبير مع المجرمين وتجار المخدرات والبلطجية وترحيله بهذا الهوان من الاسكندرية إلى القاهرة ثم صدور قرار إحالته إلى محكمة الجنايات في اليوم التالي مباشرة هو أشبه بالخرافات أو الكوابيس التي لا سابق لها في العدالة ، إن صح نسبتها للعدالة أساسا ، وقد فهم كثيرون أن هذا الذي يحدث هو تصفية حسابات بين أجنحة داخل مؤسسة العدالة وأن هناك حرب تكسير عظام حقيقية بين تيارات مختلفة سياسيا في البيت القضائي ، وأن المعركة لن تتوقف عند الخضيري وقد سبقه القاضي الجليل المستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات وأحد أشرف من أنجبهم القضاء المصري في تاريخه ، وقد حولوه إلى محكمة الجنايات بتهمة إهانة المستشار الزند ، وهناك طلب ضبط وإحضار للمستشار الجليل محمود مكي نائب رئيس محكمة النقض ووزير العدل السابق وهناك عشرات القضاة من المعارضين للمستشار أحمد الزند وجناحه في القضاء والنيابة يتم تحويلهم للتحقيق وبعضهم تحول للصلاحية تمهيدا لفصله وانتهاءا بسجنهم بعد ذلك . الخطير في الأمر أن مصر لم تعد تعيش صراعا سياسيا فقط ، ولكنها تعيش مرحلة انهيار الدولة كدولة ، وهناك حالة من التفكك غير المسبوق بين المؤسسات ، وكل جهة تعمل ما بدا لها ، بدون حسيب ولا رقيب ، بل وكل جناح داخل أي مؤسسة يعمل ما بدا له بدون سيطرة أو رقابة أو مرجعية حقيقية ، وهناك فقدان ثقة مطلق بين الجميع تجاه الجميع ، لا أحد يثق في شيء ولا مؤسسة تثق في أخرى ولا حزب يثق في آخر ولا قيادة تثق في غيرها ولا مواطن يثق في ما يمكن أن يحدث في بلده غدا ، .. ربنا يستر .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1