في منتصف هذا الشَّهر عقدتْ في العاصمة النرويجيَّة أوسلو ورشة عمل حول "العلاقات المصرية السودانيَّة بعد الاستفتاء.. كيف يمكن جعل التعاون جذابًا"، هذه الورشة تم تنظيمها عبر التعاون بين ثلاث مؤسَّسات بحثية هامة في النرويج, هي المركز النرويجي لبناء السلام (نورف), ومعهد أوسلو لأبحاث السلام (بيريو), ومعهد الدراسات التطبيقيَّة الدولية (فافو) وقد تضمنت الورشة ثلاث أوراق رئيسية, الأولى عن سيناريوهات مرحلة الاستفتاء وما بعدها، وقدمها "أوستين رونالدسن" الخبير بمعهد أوسلو لأبحاث السلام, والثانية عن قضايا الأمن الإقليمي قدمها "بيتر وودوارد" الأستاذ بجامعة ريدنج ببريطانيا, والثالثة عن قضايا وسياسات مياه النيل وقدمتها "فدوى علي طه" الأستاذة بجامعة الخرطوم. برنامج الورشة كان قائمًا على عرض الورقة الرئيسيَّة ثم الاستماع إلى ثلاثة تعقيبات مختلفة لاستيفاء وتقليب الزوايا المختلفة للموضوع قبل فتح باب النقاش, الذي جاء ثريًّا ومعبِّرًا عن وجهات نظر عديدة تبعًا لمواقع وخبرات الضيوف المدعوين وكذلك الحاضرين من النرويجيين وغيرهم من المهتمين. كان عدد المدعوين من السودان كبيرًا, رغم تخلُّف بعضهم عن الحضور, وقد عوض عن ذلك العدد الكبير من السودانيين الدارسين أو المقيمين بالنرويج الذين ساهموا في الحضور والنقاش.. وكان من أبرز المشاركين بالإضافة إلى "فدوى علي طه" التي قدَّمت ورقة رئيسيَّة كلٌّ من محمد محجوب هارون مدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم وألفرد لوكيجي من جامعة جوبا، بينما تغيَّب عطا البطحاني ومجاك آقوت من جامعة جوبا. سبقت الورشة جلسة حوار حول التطورات الحالية في السودان وآليات تفاعلها, كان المتحدث الرئيسي فيها لوكا بيونق وزير مجلس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنيَّة وأحد المقربين إلى سلفاكير، حيث كان يشغل قبل ذلك منصب وزير حكومة الجنوب، وقد كان من المفترض أن يشارك من حزب المؤتمر سيد الخطيب أو إبراهيم غندور، ولكنهما لم يتمكَّنا من الحضور, الأمرُ الذي جعل حديث لوكا بيونق حاضرًا في تعليقات عدد كبير من الحاضرين في الورشة في اليوم التالي. ورغم أنني لم أتمكن من حضور جلسة النقاش هذه بسبب مواعيد رحلتي التي تأخرت في مطار كوبنهاجن, إلا أن من شاركوا أشادوا بالمدخل التعاوني الذي غلب على حديث لوكا كشرط أساسي لحلّ الخلافات الحالية والمستقبليَّة. الأوراق لم تخرجْ في تناولها عن النقاشات والآراء المعتادة, ولكن ما لفت نظري هو ما جاء في ورقة البروفيسير وودوارد باعتباره أستاذًا معروفًا في الدراسات السودانيَّة, حيث افتتح حديثه قائلا: "لولا مصر ما كان السودان.. وهذا ما يفسر عمق وأهمية العلاقة" هذه المقولة التي قد تكون صحيحة من الناحية التاريخيَّة, لم تعد ذات صلة بالواقع القائم, غير أنها تفسِّر الروح التي هيمنت على ورقة وودوارد، والتي انطلق فيها من أن مصر والسودان وأجزاء أخرى في شرق إفريقيا كانت جزءًا من أراضي الإمبراطوريَّة التي حاول محمد علي باشا وخلفاؤه إقامتها, لأهدافٍ عديدة بعضها يتعلق بمياه النيل وبعضها الآخر يعود لأهداف توسعيَّة، وقال أن هذه الدولة انقسمت إلى دولتين مع استقلال السودان في عام 1956 وها هي تنقسم مرة أخرى لتكون ثلاث دول مع الانفصال القادم لجنوب السودان, ثم تحدث بعد ذلك عن العديد من القضايا مثل الاقتصاد والأمن.. إلخ. كان مطلوبًا مني التعليق على ورقة وودوارد, ووجدت نفسي أختلف بشكلٍ كبير مع منطلقه التأسيسي, حيث لم يعد أحد في مصر ينظر إلى العلاقات مع السودان بنفس الطريقة أو الدرجة من المركزيَّة التي كانت قائمةً قبل ثورة يوليو 1952, وأنه رغم بقاء الشعور العميق بالروابط التاريخيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة, ورغم الترابط بين مصالح الأمن القومي المصري وبين ما يحدث في السودان, إلا أن هذا يتمُّ النظر له والتعامل معه من منظور مغاير تمامًا, يقوم على التعاون بين كيانين مستقلين, على كلٍّ منهما تحديد وبلورة مصالحة واستكشاف المشترك الذي يمكن التعاون فيه. وقلت أن ثورة يوليو أحدثت انقطاعًا في المسار الذي بدأه محمد علي وخلفاؤه لتبني سياسات وتوجهات أخرى كان من أهمّ ملامحها الموافقة على حقّ تقرير المصير للسودان, ثم كانت مصر أول دولة تعترف بالسودان المستقلّ, ولهذا السبب نجد أن سيارات السفارة المصريَّة في الخرطوم تحمل اللوحات الدبلوماسيَّة رقم(1). كما أن مصر الناصريَّة كانت الدعم والسند لتحرُّر كل إفريقيا من الاستعمار، وهذه وقائع ثابتة ما زالت أصداؤها الحية تتردَّد حتى الآن, ومن ثَمَّ فإن هذا المنظور التحليلي يؤدي إلى الوصول إلى قراءات غير صحيحة. ذكرت أيضًا أن فترة التسعينيَّات قد شهدت توترًا كبيرًا بين البلدين وتركت آثارًا سلبيَّة على الناحيتين، وأن هناك جهدًا كبيرًا يبذل لمعالجة هذه الآثار في السنوات العشر الأخيرة, كان من أهم معالمه توقيع اتفاقيَّة الحريات الأربع في عام 2004, وأن هذه الاتفاقية تضع أساسًا جيدًا لعلاقات متطوِّرة في المستقبل في حالة توافر الإرادة السياسيَّة لدى قيادة البلدين, ويمكن أن تصلح لبناء علاقة شراكة استراتيجيَّة متوازنة ومتبادلة بين البلدين تقوم على دعامتين هما: الأمن والاقتصاد, وتكون درءًا للتداعيات السلبيَّة المحتملة لانفصال الجنوب, وتسعى إلى بناء توازن جديد يهدف إلى تدعيم الأمن والاستقرار وبناء التنمية ليس للسودان بشطرَيْه فقط ولكن للمنطقة بشكلٍ عام.. وقد أنهيت هذا التعليق بأنه يمكن تلخيص سياسة مصر الحالية تجاه السودان في السعي نحو الاستقرار والوحدة كهدف أساسي, ولكن إذا وقع الانفصال فالسياسة المصريَّة تسعى لأن يكون هناك استمرار للروابط التعاونيَّة. كان من بين المشاركين من مصر السفير أحمد حجاج الأمين العام للجمعيَّة الإفريقية, والذي قام بالتعليق على الورقة الخاصَّة بالمياه وكان حضوره مميزًا, كما شارك أيضًا الدبلوماسي المصري تامر عزام, وإن كانت مشاركته قد جاءت بصفته عضوًا في مفوضية التقييم لاتفاقيَّة نيفاشا, إلا أنه أفصح عن إلمام واستيعاب عميقين للتطورات الحالية والآليات الكامنة وراءها. الحضور الدبلوماسي المصري والسوداني كان مميزًا, حيث شارك السفير المصري في النرويج بفاعليَّة في المناقشات, كما شاركت أيضًا سفيرة السودان إلهام أحمد، حيث حرصت على التعقيب والتصحيح بشكلٍ متكرِّر, وكانت قد أقامت حفل عشاء بمقرها في أوسلو للمشاركين في الورشة من مختلف الاتجاهات, الأمر الذي مثَّل فرصةً مناسبة لمزيد من التعارف وتبادل وجهات النظر. اللافت في هذه المسألة أن تهتمَّ النرويج بمؤسَّساتها البحثيَّة المختلفة بهذه القضيَّة, على هذا البعد من منطقتنا, وأن تدعو مشاركين من مناطق مختلفة وتوجهات متعددة, ونحن ما زلنا نتعامل معها باجتهادات فرديَّة, دون مؤسسيَّة.. ودون رؤى موضوعيَّة تستبطن وتستقرئ الوقائع والأحداث والمآلات, فلا غرابة بعد ذلك أن تسود سياسات ردّ الفعل المبتسرة, وأن تجد الأجندات الخارجيَّة الساحات مفتوحة أمامها دون قيود أو عوائق. المصدر: الاسلام اليوم