تعرَّضَت إيران في شهر يونيو من العام الحالي لعقوبات دولية وأمريكية جديدة ومغلَّظة, في محاولة لدفعها إلى تعليق أنشطتها النووية, حيث وافق مجلس الأمن الدولي بأغلبية 12 صوتًا -ضمنها الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن, ضد صوتين معارضين (تركيا والبرازيل) وامتناع بلد واحد (لبنان) عن التصويت- على توسيع نطاق العقوبات ضدَّها. وينصُّ القرار الجديد على منع إيران من الاستثمار في الخارج في بعض النشاطات ذات العلاقة بالبرنامج النووي مثل مناجم اليورانيوم، كما يتيح القرارُ تفتيشَ السفن الإيرانية في عرض البحر, وهو أمرٌ لم يكنْ مسموحًا به من قبلُ إلا في الموانئ، وهذا الأمرُ يفتح الطريق أمام توتُّرات واستفزازاتٍ بحريَّة, يمكن لإيران أن تردَّ عليها في الخليج العربي, ضدّ سفن الدول التي ستقوم بتفتيش أو انتهاك سفُنِها في عرض البحر. كما يحظرُ القرار الجديد على كل دول العالم بيْعَ ثمانية أنواع من الأسلحة الثقيلة -خصوصًا الدبابات- لإيران، لكن هذا الحظرَ قد يكون محدود الجدوى؛ لأن أهمّ ما تحتاجُه إيران من أسلحة مثل صواريخ الدفاع الجوي, وصواريخ الردع أرض- أرض, وصواريخ أرض- بحر, أو الطائرات, إما أنها خارج نطاق الحظر أو يتِمُّ استيرادُها من دول تملك حق النقض, والتي تَمَّ تفصيل العقوبات الجديدة بصورة لا تمسُّ مصالحها التجارية- العسكرية مع إيران, مثلما هو الحال مع روسيا, أو أن إيران تصنِّعُها بنفسها بفضل التعاون الفعَّال مع كوريا الشمالية. كما تضمَّن قرار مجلس الأمن موادًّا ولوائح بخصوص أشخاص وكيانات ومصارف إيرانية تخضع للعقوبات, إضافة إلى الأشخاص والجهات التي سبق إخضاعُها للعقوبات في قراراتٍ سابقة. والغريبُ أنَّ مجلس الأمن المتشدِّد ضد إيران الساعية لتطوير برنامجها النووي الذي توجدُ مجرَّد شكوكٍ حول نواياها في توظيفه لصناعة أسلحة نووية, لم يتخذْ أي إجراء ضد إسرائيل وبرنامجها النووي وأسلحتها النووية الموجودة فعليًّا، والتي تشكِّل تهديدًا وابتزازًا للدول العربية, مما يشيرُ إلى استمرار ازدواجيَّة المعايير بصورةٍ غيرِ مقبولة وغير أخلاقيَّة. وفي نفس سياق تشديد العقوبات على إيران, قامت الولاياتالمتحدة من جانبها باتِّخاذ إجراءاتٍ خاصة جديدة لمعاقبة إيران ومحاولة عرقلة برنامجها النووي، وتمنع هذه العقوبات إيران من استيراد منتجَات النفْط المكرَّر مثل وقود السيارات والطائرات وتحدُّ من وصولها إلى النظام المصرفي العالمي. وتمنع العقوباتُ الأمريكية الشركاتِ غيرَ الأمريكية التي تزوِّد إيران بمنتجات النفط المكرَّر أو تؤمِّن الخدمات المالية والتأمينية أو خدمات النقْل للهيئات الإيرانية المدْرَجة على اللائحة السوداء مثل الحرس الثوري وبعض المصارف... تمنعُها من دخول السوق الأمريكية الكبيرة، ويعتبرُ هذا الجانب من العقوبات الأمريكيةالجديدة ضد إيران, من أقوى الإجراءات, لأنَّه بالفعل سيجعل الشركات صاحبة المصالح الكبيرة في السوق الأمريكية العملاقة تُراجع موقفَها من إيران وتشارك في مقاطعتها اقتصاديًّا بصورة مؤلِمَة للاقتصاد الإيراني، وقد بدأتْ بعض الشركات الأجنبية بالفعل في قطْع علاقاتها الاقتصادية مع إيران, ومن أبرزها شركة توتال الفرنسية التي انضمَّت إلى قائمة الشركات التي أوقفت مبيعات البنزين إلى إيران، كما أعلنتْ شركة ريبسول الأسبانية عن انسحابها من عقد تطْوير جزء من حقل جنوب بارس الإيراني العملاق للغاز في الخليج. وقد ردَّت الصين بقوة على الإجراءات الأمريكية المنفرِدَة، والتي سيتِمُّ تطبيقُها على الشركات المتعاملة مع إيران, بالقول: إنه لا يحِقُّ للولايات المتحدة فرض إجراءاتٍ منفردة ضد إيران تمَسُّ الدول الأخرى وشركاتها, وهو ردّ فعلٍ منطقي؛ لأن الصين هي أكبر شريك تجاري لإيران, حيث بلغتْ قيمة التجارة بينهما نحو 22 مليار دولار, تشكِّل نحو 15% من إجمالي التجارة الخارجية الإيرانية. ومن المؤَكَّد أن الكثير من الشركات الصينية سوف تكون مضطرَّةً للتضحية بمصالِحِها مع أحد الطرفين الإيراني أو الأمريكي، وهو وضعٌ غير مواتٍ لتلك الشركات. وتجدُرُ الإشارة إلى أن الاقتصاد الإيراني يمثِّل نموذجًا لِهَدْر الإمكانية, فإيران تملك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم (136.8 مليار برميل) ورغم ذلك فإن النفط الذي يشكِّل 83% من صادراتها, يتمُّ تصديرُه خامًا, بينما تستورد 40% من احتياجاتها من البنزين, وتتعرَّضُ لأزمات متكرِّرَة لنقْص الإمدادات منه, وصلت بعضها إلى مستويات من العُنف والتوتُّر العام, مثلما حدث عندما قنَّنَت الحكومة الإيرانية حصص البنزين للمواطنين في عام 2007, مما أدى لاندلاع تظاهرات واضطرابات كبيرة في العديد من المدن الإيرانية في شهر يونيو من العام المذكور، وهذا الأمر لا يمكنُ وصفُه إلا بأنه فشلٌ ذريع في دولة مُتْخَمَة بالنفط! ومع العقوبات الدولية والأمريكيةالجديدة التي حظَرَتْ تصدير منتجات النفط المكرَّرَة إلى إيران, فإنه من المتوقَّع أن تشهد أزماتٍ أكثر حِدَّة في توفير البنزين لمواطنيها واقتصادها عمومًا. وإدراكًا منها لضعف موقفها في هذا المجال وضعتْ إيران خُططًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي من البنزين خلال عامين، وفي الوقت نفسه تقليل الطلب المحلي من خلال إلغاء الدعم الحكومي للوقود تدريجيًّا، وهذه الخطَّة ستصطدِمُ بالعقوبات الدولية والأمريكية وستجعل تنفيذ إيران لها أمرًا صعبًا ومكلِّفًا، وحتى لو تمكَّنَت إيرانُ من الاتّفاق مع شركات أجنبية تقبل التعاون معها في هذا المجال, فإن هناك عامين من الأزمة في البنزين, بكل ما يمكن أن يحدثَ خلالهما من اضطرابات اجتماعية في مجتمع محتقن سياسيًّا، وربما تكونُ المراهنةُ الإيرانية على اختراق هذا الحظر من خلال تهريب المنتجات النفطيَّة من العراق, هي الأكثر فعاليةً طالما استمرَّت الحكومة الطائفية التي يرأسُها المالكي، والتي جاءتْ بها مجملُ الظروف التي خَلَقَها الاحتلالُ الاستعماري الأمريكي للعراق، والذي ارتكب حماقةً تاريخية, بحلّ الجيش وهياكل الدولة العراقية, ليقوم عملاؤه الذين من المفْتَرَض أن يخدموه, بتشكيل هياكل طائفيَّة بديلة ولاؤها الحقيقي لإيران. نموذج آخر لهدر الإمكانية الإيرانية يتعلق بالقطاع الزراعي ويتضحُ أكثر بالمقارنة مع مصر, حيث إن مصر بمساحة أرض زراعية تبلغ سدس نظيرتها في إيران وبموارد مائية وثروة حيوانية تقلُّ عن نصف نظيرتها في إيران, تنتج نحو 22 مليون طن من الحبوب مثلها مثل إيران بالضبط, وتنتج نحو 24.1 مليون طن من الفواكه والخضر, مقابل 26.6 مليون طن في إيران, كما تنتج نحو 1.5 مليون طن من اللحوم, مقابل 1.7 مليون طن لإيران، وهو ما ينعكس على الزراعة المطريَّة والسلالات التقليدية, بينما تعتمد مصر على الزراعة المرْوِيَّة والسلالات المحسَّنَة. وتتسِم سياساتُ إدارة الاقتصاد الإيراني التي يمسك بها الرئيس الإيراني ومجموعة المحافظين وقيادات الحرس الثوري إلى دعْم الريف وتجار البازار الذين لا تمسّ مصالحهم, بأنها تفتقد للخبرة وتتسم بضعف الكفاءة والجمود, ولولا حدوث ارتفاعات هائلة لأسعار النفط في عهد نجاد, لا فضل له فيها, لكان وضع الاقتصاد الإيراني سيئًا بالفعل، وقد بلَغَ متوسِّط معدل النمو السنوي نحو 4.2% خلال الفترة من عام 2005 حتى تقديرات عام 2010, مقارنةً بنحو 6.4% سنويًّا في مجموع الدول النامية خلال الفترة نفسِها, مما يشيرُ إلى أن إيران كانت ضمن مجموعة الدول التي حقَّقَت معدلات نمو أقلّ من المتوسِّط. ورغْمَ أن نجاد قد وَعَدَ بتحسين أداء الاقتصاد وتوزيع الدخل ومساعدة الفقراء وإعطائهم حقوقهم في الثروات الطبيعية لبلادهم, إلا أنه لَجَأَ إلى تقديم مساعدات مالية مباشرة لمواطني المناطق الريفية التي كان يزورُها في صورة هبات نقدية, وهبات عينية من البطاطس, وهذه الطريقة المتخلفة والمهينة في مساعدة الفقراء لم تغيِّرْ شيئًا من واقع الفقر في إيران, ولم تمكِّن الفقراءَ من كسب عيشهم بكرامة من خلال فرص عمل دائمة وأجور عادلة في بلدٍ ارتفع فيه معدل البطالة إلى 10.5% من قوة العمل, ومعدل التضخم إلى نحو 15.3% سنويًّا في المتوسط خلال الفترة من عام 2005 حتى عام 2009, وبدا الأمر وكأنه سلوك شخصي لأحد المحسِّنين الريفيين, وليس سلوك رئيس لدولة حديثة! لكن على أية حال فإن الحقيقة هي أن طول الفترة الزمنية التي تتعرض فيها إيران لعقوبات أمريكيَّة أو دوليَّة, ساعدت على تكيُّفِها مع هذا الوضع وبناء نوع من القدرة على التعايُش معها، ومن الضروري التأكيد على أن الحظر الشامل على الصادرات النفطية الإيرانية هو وحده القادر على توجِيه ضربة هائلة للاقتصاد الإيراني وللاستقرار الاجتماعي في إيران, لدرجة أن إيران يحِقُّ لها أن تعتبرَه إعلان حرب ضدها إذا حدث، لكن وبقدر عدم قدرة إيران على تحمُّل أي حظر على صادراتِها النفطية, فإن الاقتصاد العالمي لا يحتملُ هو الآخر غياب أكثر من 3 ملايين برميل من الصادرات النفطية الإيرانية, لأن هذا الغياب سيشْعِل الأسعارَ بصورة جنونيَّة، وسيؤدي إلى ركودٍ عميق في الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن أي عاقلٍ لن يغامِرَ بفرض حظر نفطي على إيران, إلا عندما تكتملُ إمكانياتُ تعويض إنتاجها وصادراتها من خلال طاقات إنتاجية جديدة في الدول صاحبة الاحتياطيات الكبيرة وبالتحديد العراق والسعودية, وإلى ذلك الحين تبدو إيران محصنَة ضد الحظر النفطي الذي يشكِّل الضربةَ التي لا يمكن لاقتصادها أن يحتملَهَا, أما العقوبات الراهنة فإنها موجعةٌ لكنها ليستْ مميتة. المصدر: الاسلام اليوم