النظام الجديد سعى، ليس لعزل وحبس الرئيس مرسي فقط، إنما كان يهدف أيضًا لعزل وحبس صوت مؤيديه من خلال قرارات تعسفية صاحبت الانقلاب، تتعدى على قيم الحرية ومبادئ حقوق الإنسان وتعتبر انتكاسة لأهداف ثورة يناير، وتمثلت في إغلاق وسائل الإعلام المتعاطفة، والتضييق على "الجزيرة"، خصوصًا لفرض تعتيم كامل على الاحتجاجات والاعتصامات المطالبة بعودة الشرعية، وهو ما يمثل انتهاكًا صارخًا لحرية الرأي والتعبير، أبرز مكتسبات يناير. الإعلام يسير بالتوازي مع السياسة في شيطنة تجربة مرسي وجماعته وحلفائه والمتعاطفين معه من المصريين ودمغهم بالعنف، والإعلام يروج بلغة عدائية واحدة لتلك الدعاية السوداء التي فاقت ما كان ينفذه أو يتخيله جوزيف جوبلز وزير دعاية هتلر والحكم النازي، وخطتهم أنه مع فرض التعتيم على الجماعة وأنصارها وخطابها واحتجاجاتها والعصف بقادتها بغطاء قانوني، يكون قد تم حبك سيناريو إعدامها ومعها تيار الإسلام السياسي شعبيًا، بوضعهم في مواجهة المجتمع ليقوم بعزلهم لتبدو السلطة كأنها بعيدة وبريئة من هذا الهولوكوست الجديد. من هنا يكون سر الغضب الرسمي وحملة التشويه من إعلام الدولة والإعلام الخاص - الذي يمتلكه رجال مبارك والذي أثبت أنه معاد للحرية وفاقد لكل قيم المهنية - ضد "الجزيرة" تحديدًا، لأنها لم تنضم لهذا الركب التحريضي التضليلي الذي يدوس على الموضوعية والعدالة، والذي يحرف الإعلام عن دوره في المعرفة والتنوير وإجلاء الحقيقة وعرض وجهات النظر، ليتحول إلى طرف ولاعب سياسي لخدمة هدف إقصائي لتيار كان على رأس السلطة حتى تم اختطافها منه. كان يراد إدخال "الجزيرة" حظيرة الإعلام الجوبلزي، كما حصل مع الإعلام المصري كله، والحظيرة هي مقولة فاروق حسني الشهيرة، حينما تباهى عندما كان وزيرًا للثقافة لأكثر من 20 عامًا بأنه أدخل المثقفين في حظيرة الوزارة، أي أنه دجن هؤلاء المزعجين واشتراهم بذهب المعز ليكونوا بوقًا لنظام مبارك البائد. أغلق نظام مبارك مكتب "الجزيرة" لعدة أيام خلال ثورة يناير، لأنه كان يدرك أن تغييب صوتها وصورتها هو تغييب للثورة عن المصريين وعن العالم، لكنها قاومت وظلت تنقل المشهد الثوري المتفجر وفق معايير المهنية، وكان أثرها الإعلامي بارزًا في انتصار الثورة، والانقلابيون ساروا على خطى مبارك، حيث بيتوا النية لإغلاق مكتبها والتضييق على العاملين فيها فور إذاعة بيانهم الأول مساء 3 يوليو، وهو ما حصل على الهواء دون خجل أو استحياء، عندما اقتحمت قوات الأمن مكتبها بالقاهرة أثناء البث المباشر ومتابعة الحدث المشتعل، وللمفارقة كان يتحدث في تلك اللحظة اثنين من قادة المعارضة المؤيدين لعزل مرسي مقابل شخص واحد متعاطف معه، وهذا يؤكد الحياد وعرض مختلف وجهات النظر، والإغلاق وقطع البث الفجائي على طريقة "زوار الفجر" هي ممارسة تعيدنا إلى عصور القمع، وكأنه لم تقم في مصر ثورة عنوانها الحرية. تلك كانت فضيحة حية للنظام الجديد المتخفي برداء الحفاظ على الدولة من الانهيار، وحماية الشعب من الاقتتال، وقد اكتملت تلك الفضيحة الأولى بالقبض على العاملين بالقناة والتحقيق معهم واحتجاز بعضهم أيامًا وحبس آخر 15 يومًا، ومنهم من تعرض للاعتداء، علاوة على تعمد إشاعة أجواء من الكراهية ضد القناة والعاملين فيها، مما يجعلهم في دائرة الخطر الدائم أثناء ممارسة عملهم، كأن مصر ليست دولة يحكمها قانون، بل غابة يسود فيها منطق القوة. وجاءت الفضيحة الثانية في 8 يوليو من إعلاميين قابعين في الحظيرة، وهو يوم دام شهد مجزرة أمام نادي الحرس الجمهوري ضد معتصمين سلميين من أنصار مرسي خلال أدائهم لصلاة الفجر، فسقط منهم أكثر من 50 شهيدًا ومئات الجرحى. أبلت الجزيرة في هذا اليوم بلاء إعلاميًا حسنًا بمتابعة تفاصيل المجزرة بحرفية ومهنية وموضوعية، ذلك أنني ظللت جالسًا أمام شاشتها لساعات طوال، أتابع وأراقب تغطيتها باهتمام، وكانت القناة حريصة على استضافة متحدثين رسميين للتعليق على الأحداث، لكنهم كانوا يرفضون، كما حرصت على استضافة شخصيات من مؤيدي النظام الجديد حتى لا تتهم بالانحياز، وبعضهم قال كل ما يريده ومنه نقد القناة نفسها، وبعضهم تهرب من الحديث. وتكرر الأداء الإعلامي الراقي المتوازن في المجزرة الثانية الرهيبة فجر السبت 27 يوليو، وأيضًا أنصفت الجزيرة الدماء البريئة وأبرزت الحقيقة وأفشلت مرة أخرى خطط التعتيم الإعلامي على استهداف المظاهرات والاعتصامات السلمية لمن يطالبون بعودة الشرعية وسط إعلام مصري منحاز بالكلية ضدهم ومؤيد بالكلية للسلطة وكل تصرفاتها، وكان ذلك واضحًا في التغطية المكثفة والممتدة لتظاهرات أنصارها. ولولا "الجزيرة" في هذا اليوم، لكان قد تم التعتيم على مجزرة لا إنسانية، أو لكانت تلك الدماء قد ظلمت، ولم تجد من ينصفها إعلاميًا، وهنا ازداد الغضب الرسمي وكذلك غضب الأذناب عليها، فحصل مشهد الفضيحة الثاني خلال المؤتمر الصحفي المشترك لوزارتي الداخلية والدفاع بشأن المجزرة، إذ انتفض عدد من الإعلاميين مطالبين بطرد زميلهم مراسل الجزيرة، وهو مصري مثلهم وكان مشهدًا بقدر ما هو مثير للاستغراب فإنه كان مثيرًا للاشمئزاز. تلك مأساة في حق الحرية عنوان ثورة يناير، التي تسير ما تسمى بثورة 30 يونيه على أهدافها ومنجزاتها لكن بأستيكة، فالأصل والمنطق أن يتضامن الإعلاميون مع زميلهم مطالبين بحضوره للمؤتمر لو كانت الجهات الداعية له قد استبعدته مثلاً، إذ من المفهوم أن تعادي مؤسسات رسمية وبالذات لو كانت أمنية الإعلام، لكن غير المفهوم والشاذ أن يعادي الإعلاميون أنفسهم ومهنتهم ويطالبون بإقصاء زملاء لهم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.