عندما انطلقت شرارة ثورة يناير 2011 الرائعة حاول نظام مبارك التعتيم الكامل على وقائع الثورة وفعالياتها وحشد كل إمكانياته الإعلامية من قنوات محلية وفضائيات وفضائيات خاصة من رجال الأعمال المنتفعين بفساده وصحف رسمية وموالية لتشويه الثورة ووأدها في المهد، في ذلك الوقت كانت قناة فضائية واحدة تكسر هذا الحصار وتنقل وقائع الثورة إلى العالم كله، لحظة بلحظة، وكان الثوار في الميدان يكتبون اسمها في لافتات كبيرة يجوبون بها الميدان أو يلوحون بها أمام العالم المتابع بذهول لتلك الثورة الجسورة، وأشهر اللافتات كانت تكتب ثلاث كلمات فقط "شكرًا قناة الجزيرة"، كانت هذه القناة هي قناة الجزيرة الفضائية، وقد استبد الغضب والجنون بإعلام مبارك وذيوله من عمق تأثير الجزيرة والمصداقية العالية التي حصلت عليها بين الثوار وبين الشعب المصري الذي ثبت مؤشرات تليفزيوناته على إشارة بثها، وراح يتنقل عبر الإشارات كلما تلاعبوا بإشارة، وظهرت وجوه إعلامية شهيرة وهي تشتم قناة الجزيرة وتصفها بالمتآمرة على مصر، والمحرضة على الفتنة والمشوهة للحقائق، حتى انتصرت الثورة وانتصرت رسالة قناة الجزيرة معها، وتحول مذيعوها ومراسلوها إلى جزء لا يتجزأ من ملامح الثورة المصرية وشركاء في النصر، وبعد حوالي عامين ونصف، وفي مطلع يوليو 2013 وبعد قرار عزل الرئيس السابق محمد مرسي دشنت في مصر حملة واسعة لغلق قنوات تليفزيونية مؤيدة للتيار الإسلامي مع حملة غير مسبوقة من التشهير بالمؤيدين للرئيس المعزول والمدافعين عن شرعيته وشاركت أكثر من عشرين قناة فضائية خاصة في تلك الحملة العنيفة مع قنوات التليفزيون الرسمي والصحف القومية التي حولت بوصلتها مائة وثمانين درجة من الولاء للإخوان إلى الولاء للسلطة الجديدة، قناة واحدة فقط هي التي خرجت من "القطيع" واهتمت بنقل الوجه الآخر للأحداث وتابعت فعاليات ملايين المؤيدين للرئيس المعزول واعتصاماتهم في رابعة العدوية وميدان النهضة وميادين مصرية عديدة بالمحافظات، قناة واحدة فقط أمام أكثر من عشرين قناة فضائية مصرية وبعض القنوات العربية "الحليفة"، تلك هي قناة الجزيرة، فكان أن خرجت نفس الوجوه والأسماء التي سبقت الإشارة إليها في ثورة يناير 2011 لتهاجم قناة الجزيرة من جديد وتصفها بالتآمر على مصر وتهديد أمنها والتحريض على الفتنة، وتقريبًا تحمل الحملة الجديدة نسخة طبق الأصل من خطاب أنصار مبارك أيام ثورة يناير، نفس الكلمات ونفس اللهجة ونفس الوجوه أيضًا. من حقك أن تختلف مع هذه القناة أو تلك في الرأي والرؤية التي تميل إليها، ويمكنك أن تدينها إن شئت أيضًا، ويمكنك أن ترى أن تغطياتها تجامل هذا الفريق أو تميل إلى تلك الرؤية، لكن ليس من حقك مصادرة حقها في حرية التعبير، ليس لأنه حق لأصحابها والعاملين فيها، وإنما لأنه حقنا نحن المشاهدين، لأنه مصادرة لحق ملايين المصريين والعرب في معرفة الحقيقة أو الوجه الآخر للحقيقة، فالحق في التعبير متعلق بالمتلقي أكثر من تعلقه بصاحب الرأي، وأما من يريد أن يظهر للعالم رأيه وحده ورؤيته وحده وروايته وحده ويدفن مخالفيه ويعتم على مطالبهم أو رؤيتهم أو روايتهم فهو يمارس ظلامية سياسية واستبدادًا مدانًا ووصاية غير أخلاقية على ملايين المواطنين والمهتمين بالشأن المصري، والحقيقة أن الحملة العاتية على قناة الجزيرة الآن تمثل إهانة بالغة لمصر وإعلامها ورسالة بالغة السوء عن انهيار أخلاقيات المهنة في مصر، وأن الثورة لم تصل بعد إلى الإعلام ثقافة وقيمًا، لقد وصم الإعلام المصري بالعار عندما تحرش صحفيون مصريون بمدير مكتب قناة الجزيرة وهو يغطي مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا للجيش والشرطة وأجبروه على مغادرة المكان، فكانت فضيحة وعارًا لحق بالصحافة المصرية، وعمليات التحرش والملاحقة المتوالية لمراسلي القناة ومديري مكاتبها حتى اضطروها إلى نقل معظم فعالياتها إلى خارج مصر واستضافة إعلاميين وسياسيين مصريين إلى الدوحة من أجل التعليق على الأحداث تجنبًا لعمليات اقتحام مكاتب القناة في القاهرة كما حدث في أعقاب واقعة عزل مرسي. الثورة المضادة في مصر لها ثأر مع تنظيمات وحركات وأحزاب عديدة ممن شاركت في ثورة يناير، ولكن ثأرها الأكبر فيما يبدو لم تنساه مع قناة الجزيرة التي يعتبرونها أحد أهم أسباب انتصار ثورة يناير، ويبدو أن صمودها حتى الآن في وجه عاصفتهم الهوجاء الجديدة زادهم عنفًا وضراوة في التحريض عليها، لأن تغطيتها المستمرة للأحداث برؤية مغايرة لما هو سائد في إعلام "الفلول" يساهم بقوة في إفشال مشروع بكامله يراد له أن يبسط سيادته على المشهد المصري الحالي. إن المحك الحقيقي لمدى إيماننا بحرية الرأي والتعبير لا يظهر أو يصدق عندما تكون الوسيلة الإعلامية متوافقة مع رؤيتنا ومؤيدة لما نحب، وإنما يظهر ويصدق إيماننا بحرية التعبير عندما تكون الوسيلة الإعلامية مختلفة مع رؤيتنا ومغايرة لروايتنا وناقدة لموقفنا السياسي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.