حملات الهجوم والتحريض على "الجزيرة" ليست جديدة، فقد اعتادت القناة العتيدة على ذلك في مصر، وفي غيرها، لكن ما يحدث لها هذه المرة لا ينفصل عن المشهد السياسي والإعلامي بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب، بل إن سهام الاستهداف كانت مصوبة على القناة منذ بدأ الترتيب لسيناريو 30 يونيه بهدف إخضاعها لتكون ضمن جوقة الدعاية والتجهيز لمرحلة ما بعد مرسي، أو إرهابها عن مواصلة رسالتها الإعلامية المتوازنة القائمة على عرض الرأي والرأي الآخر. المشهد السياسي تمثل في إزاحة رئيس منتخب بقوة المؤسسة العسكرية مدعومة بغطاء من تظاهرات قطاع من المصريين، وليس كل المصريين، كما كان الحال خلال ثورة 25 يناير التي كانت تمثل إجماعًا شعبيًا ووطنيًا، وذلك لصنع نظام انتقالي جديد بهدف إعادة ترتيب الأوضاع بشكل لا يسمح بسيطرة فصائل الإسلام السياسي على المؤسسات المنتخبة، ولو من خلال الصندوق، أو تهميش وإقصاء فصائل بعينها، والعودة الكاملة للدولة البوليسية القديمة متسترة بنظام ديمقراطي مدني شكلي، وهو ما يحصل الآن تدريجيًا. والجدل لن يتوقف بشأن ما حصل: هل هو انقلاب على الديمقراطية؟ أم ثورة شعبية؟! يصعب اعتبار ما حصل بأنه تغيير ثوري، بل هو انقلاب ناعم تكشف الأحداث أن 30 يونيه لم يكن يومًا عفويًا، بل تم التخطيط له جيدًا من جانب أجهزة رسمية، وجماعات معارضة اتخذتا من "تمرد" واجهة شبابية لها، وهي حركة ذات دور وظيفي مرحلي، وأتوقع أن يتراجع دورها ووجودها تدريجيًا لتختفي من المشهد في لحظة تحددها أجهزة الدولة العميقة التي حاربت مرسي طوال عامه الوحيد في الحكم، حتى لا يحقق أي نجاح مما يسهل مهمتها في التغرير بعامة الناس وإقناعهم بأنه فشل لإخراجه من السلطة. وقد ساهمت أطراف إقليمية معروفة في دعم ما جرى عبر التمويل وعبر الترويج السياسي المسبق لدى عواصم كبرى لما يجري الترتيب له حتى تقبل إنهاء حكم أول رئيس مدني منتخب بقوة المؤسسة العسكرية، بل العصف بأول تجربة ديمقراطية في بواكيرها. كان مطلوبًا من "الجزيرة" القناة الواسعة الانتشار والتأثير أن تصطف في منظومة إعلامية مصرية وعربية تم صنعها وتجهيزها وبرمجتها لتشارك في استهداف الرئيس مرسي ونظامه وكل من يدعمه، والترويج للمشهد السياسي الانقلابي الجديد، أي تكون طرفًا في أوسع عملية غسيل مخ للمصريين، ليقبلوا بالوضع المستجد من خلال الدعاية السوداء التي أعادت مصر إلى زمن الإعلام الشمولي الموجه الذي يديره "أمراء الظلام" دون اعتبار للقيم المهنية أو الأخلاقية، ولذلك وجدنا الشحن الإعلامي يصل لذروة التجييش من خلال الدعاية المكثفة لتظاهرات 30 يونيه، وسط تسامح وانفتاح من الرئيس والحكومة، رغم أنهم السلطة وأن تلك المظاهرات مطلبها الوحيد هو إسقاط تلك السلطة، بينما السلطة الجديدة ومن أول لحظة لها تغلق بشكل تعسفي كل وسائل الإعلام المتعاطفة مع مرسي وتفرض تعتيمًا كاملاً على أنصاره ونشاطاتهم الاحتجاجية السلمية، بل تتفنن آلة التوجيه المعنوي وصنع الإشاعات في شيطنة هذا الطرف وإلصاق سيل من التهم والأوصاف به يعف القلم عن ذكرها. كان مطلوبًا من الجزيرة أيضًا أن تتبنى - مثل إعلام الانقلابيين - مظاهرات 30 يونيه فقط وتتجاهل تمامًا مظاهرات أخرى حاشدة اعتصمت مبكرًا في الميادين تأييدًا للشرعية التي تم اغتيالها، وتركيز الشاشة على تظاهرات المعارضة تحت زعم أنها التعبير الوحيد عن الشعب المصري وتغييب شعب مصري آخر يدعم الرئيس المختفي قسرًا. وقد أثبتت الأيام أن الشعب المؤيد لمرسي صلب ويتسع ويتمسك بمطالبه في اعتصام متواصل يتمدد رأسيًا وأفقيًا رغم التعتيم عليه والتنكيل به والمجازر غير المسبوقة في تاريخ مصر التي يتعرض لها، بينما حشد 30 يونيه سابق التجهيز اختفى سريعًا من "التحرير" و"الاتحادية"، لأنه اصطنع لدور معين، وبعد تفككه صار صعبًا إعادة تجميعه مرة أخرى، لذلك قام وزير الدفاع بنفسه بالدعوة المباشرة لجمع الفئات المؤيدة له يوم 26 يوليو، حتى لا يتواصل انكشاف الانقلاب أمام العالم ويقول إنني ورائي جمهور. لم تنضم "الجزيرة" للحلف الإعلامي المناهض لمرسي، ليس دفاعًا عنه كشخص أو لأي سبب سياسي، إنما لغاية إعلامية ترتبط بدورها ووظيفتها، ذلك أن هذا الحلف مبني على أدوات وأفكار وسياسات إعلامية موجهة تجاوزها زمن التحرر من قبضة الاستبداد ونظم الحكم الفردية، وكان انخراط القناة في تلك الشبكة سيمثل أكبر إساءة لنهجها ومسارها، لأنها القناة التي أسست للإعلام الحر المنفتح في المنطقة العربية، ولم يكن منطقيًا أن تنقلب على مبادئها وقيمها لا في مصر ولا في أي بلد آخر، حتى تحظى بالرضا من السلطات الحاكمة. وإذا كان ما يحصل في مصر منذ الانقلاب هو ردة إعلامية للخلف، وعودة للصوت الواحد، والخطاب الواحد، والصورة الواحدة، فإنه لم يكن ممكنًا لمن يخططون للتعبئة الإعلامية على النمط القديم الذي عفا عليه الزمن وتجاوزه الانفجار الإعلامي والفضائي الهائل أن تشاركهم الجزيرة في تلك المهزلة، لأنها هي من هزمت إعلام الصوت الواحد بالضربة القاضية، وساهمت في ظهور إعلام الأصوات والآراء والصور المتعددة، وهي التي عرت بتجربتها وممارساتها المهنية النزيهة الإعلام الشمولي الأحادي الذي كان مسيطرًا على الساحة وعلى العقل العربي، ويضع نفسه في خدمة الاستبداد الحاكم، ويقود الشعوب كالقطيع. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.